Home English اتصلوا بنا سجل الزوار

الدعوة الرهبانية

رهبنة الوردية المقدسة

 
 

 

نشأة رهبنة الوردية المقدسة

 
 

 
-  

كل إنسان يختلف عن الأخر. ولكل فرد تاريخه ومزاياه وهويته الفردية التي تميزه عن غيره. وهكذا بالنسبة للرهبانيات. فلكل رهبانية شخصيتها وميزاتها وهويتها التي تفرزها وتميزها عن غيرها من الرهبانيات. هناك مئات من الرهبانيات في الكنيسة الكاثوليكية، لكل منها طريقتها وأسلوبها وهويتها في التشبه بالمسيح، وفي تلبية مختلف حاجات الكنيسة، وحمل بشرى الخلاص. ولرهبانية الوردية المقدسة، طابعها الخاص، وهويتها التي تميزها عن غيرها، والتي تعود بالخير على الكنيسة. جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني " تجديد الحياة الرهبانية"  "تقتضي مصلحة الكنيسة نفسها، أن يكون للمؤسسات طابعها الخاص ومهمتها الخاصة. ولذلك وجب العمل بأمانة على إظهار روح المؤسسين ومقاصدهم الخاصة، وتقاليد المؤسسة السليمة والمحافظة عليها، إذ أنها تكون بجملتها تراثا مكملا للمؤسسة " (رقم 2، فقرة ب)

 

الصفحات الأولى لنشأة الرهبانيــــة     

 

لا يمكن أن نحكم على حقيقة المسيرة التاريخية للرهبانية، إلا انطلاقا من تراثها الروحي وأهدافها الرسولية والرهبانية، وبالتالي لا بد من التعرف على هويتها الشخصية في روح مؤسسيها وفي أهدافهم التي توخوها . ونعني بروح المؤسسين وروحانيتهم تلك المواهب الخاصة الفائقة الطبيعة، التي بها أحبوا الله، والتي منها تستقي الرهبانية لتحيا ولتكون ما يجب أن تكون في كنيسة الله.

إن تأسيس رهبانية الوردية قرار سماوي وجد تجاوبا وترحيبا لدى من اختارتهم الأم البتول لتنفيذه. فالصفحات الأولى لنشأة الرهبانية تكشف لنا:

يد العذراء سلطانة الوردية

"أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية"

إن المؤسس الأول والحقيقي للرهبانية هي الأم البتول، سيدة الوردية المقدسة. ليس من السهل أن نقول ذلك، إلا أن هذا القول لا يحمل في طياته أية مغالاة، وهو الحقيقة الواقعية المجردة. تسلسل الوقائع في حياة المكرمة الأم ماري الفونسين التي كانت لا تزال راهبة في رهبانية القديس يوسف، في بيت لحــم تثبت هذه الحقيقة: فقد ظهرت مريم العذراء سلطانة الوردية المقدسة لأمتها الأخت ماري الفونسين في 31/5/1874  وشاهدت الرائية مكتوبــــا فوق إكليل الأم البتول هـــذه الكلمــات : " عذارى الوردية السريّة".

 

كذلك في مساء عيد الغطاس 6/1/1875 ظهرت لها الأم البتول حاملة الوردية كالمرة الأولى مع صفين من البنات، إلى يمينها وإلى يسارها وكان مكتوبا " عذارى الوردية/ رهبانية الوردية " وسمعت صوت الأم البتول في قلبها يقول :" أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية ".

 

 

ومرة أخرى أخذت العذراء بزمام المبادرة وأوحت إلى الراهبة حلما نبويا يرسم معالم المستقبل رسما أكثر وضوحا فكتبت الأم الفونسين قائلة : " وفي غضون ذلك رأيت في الحلم أمي مريم البتول تحيط بها عذارى عديدات... ثم قبضت مريم على يدي بشدة وقالت " أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية. أما فهمت بعد ؟ " دبّ الذعر في روعها لدى سماعها الكلمات الأخيرة فتوسلت إلى العذراء: " أرجوك أن تقبلي أختي حنة وأن تكلي إليها هذه الخدمة". فأجابتها العذراء: " إني أقبل أختك استجابة لطلبك، فاتكلي على رحمتي ولا تخافي... والآن أشير عليك أن تنشئي هذه الرهبانية وأنا معك. وكوني على ثقة بأن أخوية الوردية ورهبانيتها ستنجح وتتوطد إلى يوم الدينونة، بشرط أن تباشريها طبقا لأوامري وإلهاماتي" ثم أمسكت بيدي بقوة وعلقت في عنقي الوردية التي كانت بيدها وقالت لي :" أنا أمك، أعينك وأساعدك". قالت هذا وتركت يدي. وتابعت القول :" ابدئي العمل واقصدي في بادئ الأمر البطريرك منصور وبلغيه ذلك، فهو الذي يدبرك لأن إرساليات أبرشيته وغيرها ستزدهر بالورديةj ".

 

 
 

في بداية عام 1876 رأت الأم ماري الفونسين السيدة العذراء مرة أخرى وحولها فوج من العذارى يرتدين ثيابا بيضاء وزرقاء. وطلب منها الأب أنطوان بلوني مرشدها أن تقيم تساعية صلاة لتستطلع مقاصد العذراء ولتستعد لتنفيذها. ولما انقضت الأيام التسعة المطلوبة تراءت مريم لأمتها، يحيط بها هذه المرة جمهور غفير من العذارى وهنّ مرتديات ثيابا رهبانية زرقاء وبيضاء كثوبها، وبعد أن نظرت إليها بعطف ومودة، قالت لها استجابة لصلواتها:

"متى تبدئين تأسيس رهبانية الوردية؟ تشجعي وتممي أمري. أما فهمت؟ إني أريد رهبانية الوردية، رهبانية الوردية. فلسوف تزيل من الأرض كل شرّ وبليّةn ".

في هذه المرة لم تتقاعس الأم ماري عن حمل المسؤولية، ولم تظهر أدنى تردد وفتور، بل خرّت أمام قدمي العذراء متوسلة قائلة :" يا أمي امنحيني الوسائل اللازمة فإنني مستعدة فأردفت العذراء: " إن الوردية هي كنزك، فاتكلي على رحمتي وثقي بالجود الإلهي، وأنا أعينك " ثم ألقت عليّ السبحة من يدها وغابت.

وبعد ذلك بمدة وجيزة ظهرت لها العذراء مرة أخرى... " إني أثبتكنّ باسم أفراحي وباسم أحزاني وباسم أمجادي " قالت هذا وغابت.

وفي ظهور ثالث، جرى ليلا. شاهدت الأم ماري الفونسين القديس يوسف، فأسرعت إليه تشكو له همها الشديد، فسألته: كيف أعمل لأبدأ تأسيس رهبانية الوردية وأنا في رهبانية القديس يوسف؟ فأجابها بقوله " أريد أن تتمي بفرح ما أنت مدعوّة إليه " وأضاف مشيرا بيده إلى العائلة المقدسة: " إننا قد فرحنا وحزنا وتمجدنا معا. وأريد أن تخرج من رهبانيتي رهبانية الوردية ". وشعرت الرائية بالفرح والثقة وعزمت على تنفيذ إرادة العذراء، بحذافيرها مهما كلفّ الثمن.

وتوالت الرؤى النبوية وتبلورت لدى الرائية الخطوط العريضة التي ستسير عليها الرهبانية. فهي في الدرجة الأولى رهبانية مريمية تتلى فيها الوردية ليل نهار فقد قالت لها العذراء: " إن من الضروري أن يكون في الدير وردية دائمة تتلوها الراهبات والبنات" وتتابع الأم ماري قائلة: وكنت أشاهد الراهبات قاطبة يمارسن طاعة تامة إكراما لأسرار فرحها الإلهي وفقرا مدقعا إكراما لأسرار حزنها، وعفة فائقة إكراما لأسرار مجدها. وكنّ بهذه الفضائل الثلاث يكرمّن سيدة الوردية فتبتهج بذلك وتزيّن نفوسهنّ بالمواهب السماوية، وتسكب عليهنّ رغبة في السير على طريق الفضيلة الإنجيلية والكمال الرهباني .

 

     سيدة الوردية حرّكت القلوب

 

 

لم تكتفٍِِ الأم البتول سلطانة الوردية المقدسة بأن ظهرت للأم ماري الفونسين وطلبت إليها بأن تؤسس الرهبانية، بل أخذت توجه تفكير الكثيرات من الفتيات التقيات، وبخاصة في بيت لحم والقدس إلى الحياة الرهبانية، وإلى المطالبة برهبانية جديدة حيث يتمكّنَّ من تكريس ذواتهنّ لله وللعمل الرسولي في حقل الرب، فبعد إحدى الظهورات أقبلت إحدى طالبات الأم ماري الفونسين تهمس في أذنها أمرا يتعلق بالمهمة الجديدة، وكتبت الراهبة فيما بعد لمرشدها تقول:  

" ما إن مرّت ثلاثة أيام على ذلك، حتى حضرت إحدى بنات الأخوية تقول: إنها بينما كانت تحضر القداس الإلهي أُلهمت أن تبلغني أن أنشئ رهبانية باسم الوردية المقدسة تنضم إليها بنات جنسنا " .

 

وكان العديد من فتيات بيت لحم يطالبن بتأسيس رهبانية عربية، وفي القدس أقبلت إلى الأب يوسف طنوس عدة فتيات ينتمين إلى أعرق العائلات المسيحية وأعربن عن استعدادهنّ للتضحية وبذل الذات، فبادر إلى إشراكهن في نشاطاته الدينية والاجتماعية، وعمّق فيهن روح التفاني والتضحية. وجاء هذا التطوع في أوانه.

-وكتبت الأخت حنة دانيل غطاس بشأن فترة ما قبل الشروع في إنشاء الرهبانية قائلة:" إنني أنا الحقيرة حنة دانيل غطاس، قد خطر ببالي ابتداء دير الوردية وتحرك قلبي وانعطفت إرادتي وقصدت بفكري لأعتني وأتمم بكل جهدي هذا الفعل الخلاصي المفيد.

وذلك في يوم أخر الرياضة المقدسة التي تمت في شهر أيلول سنة 1877 ، في دير راهبات مار يوسف في بلدنا في أورشليم... شرحت لحضرة لبيبة راحيل وبعده لحفيظه ولشقيقتي روجينا، شرحت لهنّ فكري وقصدي... فهنّ جاوبنني بأنهنّ قد أُلهمن مثلي ويرغبن مثلي من صميم القلب أن نكون معا سوية لبداية وتتميم الرهبانية المذكورةf.

ففي اليوم ذاته قد أوضحنا رغبة قلوبنا لحضرة معلمتنا الأخت أنجيليك لكي توضح لقدس أبوتكم المحترمة، رغبة قلوبنا، منوبة عنا بترجي قدسك بأن تبذلوا جهدكم بفتح دير الوردية لأجل مجد أمنا مريم البتول... ثم اتفقت معنا أمينة حبش وسلطانة البينا وأختها، وكنّا نكرر على الأخت أنجيليك طلبتنا... وبحيث أمنا البتول تنازلت منعطفة نحو صغرنا وحقارتنا محركة قلوبنا وإرادتنا لخدمتها... ها نحن بهذا الانتظار حاضرات لتتميم أمرك المطاع.. لخدمة أمنا مريم البتول سيدة الورديةs".

أما كهنة البطريركية والبطاركة فكانوا يلمسون أكثر من غيرهم حاجة الرعايا إلى راهبات عربيات، وكانوا يتألمون أكثر من غيرهم لوضع الفتيات والأمهات المأساوي ولعدم تمكنهم من العمل من أجلهنّ ، وتثقيفهنّ روحيا ودينيا واجتماعيا، بسبب عوائد المجتمع التي لم تكن تتقبل ذلك عن يد الكهنة.خ

وقد كتب البطريرك منصور براكو بعد زيارته لرعية الفحيص يقول:" عندما وصلت إلى قرية الفحيص، هرع الرجال لملاقاتي، أما النساء فقد تجمعنّ في جمهرة واحدة وكنّ يطلقن صرخات الفرح على طريقة خاصة بهنّ (الزغاريد) ولما دخلتُ الكنيسة انسحبن كلهنّ عائدات إلى بيوتهنّ، والرجال وحدهم تبعونيy.

وأخذ يفكّر بإنشاء رهبانية نسائية محلية تسير جنبا إلى جنب مع الإكليروس، من أجل تربية الفتيات تربية مسيحية وعلمية لرفع شأنهنّ روحيا ودينيا واجتماعيا.

لقد كان هنالك عجينة صالحة- فتيات ورعات- في القدس وبيت لحم وفي أماكن أخرى خمّرتها العذراء سلطانة الوردية لطلب الكمال الرهباني في رهبانية الوردية وللعمل في حقل الرب في الديار المقدسةg.

 

    الأم ماري الفونسين  

 

" طوبى للتي آمنت سيتم ما بلغها من عند الرب "

لقد اختارت العذراء سيدة الوردية أمتها المتواضعة الأم ماري الفونسين للشروع في تأسيس هذه الرهبانية. ولكن من هي هذه الراهبة التي وقع عليها اختيار الأم البتول وبقيت مجهولة حتى سنة 1927 ؟

اسمها في العالم " سلطانة " وهي ابنة دانيل فرنسيس عيسى غطاس وأمها كترينا انطوان يوسف. وكانت عائلة السيد دانيل تقطن القدس وقد تميزت بالتقوى وممارسة الشعائر الدينية وإكرام الأم البتول. ولدت سلطانة في القدس الشريف، مدينة الفداء في 4/ 10/ 1843 أي خمس سنوات قبل قدوم البطريرك اللاتيني الأول، يوسف فاليرغا الذي وطّد العزم منذ استلامه كرسيه على توفير المزيد من التربية المسيحية للأجيال الصاعدة.

وقد وجّه غبطته نداء إلى عدد من الرهبانيات يستقدمها إلى الديار المقدسة، فلبّت النداء أولا راهبات القديس يوسف، فوصلن إلى القدس في 14/8/1848 وافتتحن مدرسة في القدس ولما كانت هذه المدرسة ناجحة جدا، فقد افتتحن عددا من المدارس الأخرى في يافا 1849 وبيت لحم 1853 والناصرة 1857 وفي عدد من الرعايا الموكولة للآباء الفرنسيسكان في فلسطين كما وفي رام الله ونابلس وبيت جالا. ثم لبت نداء البطريرك راهبات الناصرة اللواتي وصلن إلى الناصرة سنة 1858.

وكانت سلطانة من الفوج الأول الذي باشر الدراسة في مدرسة راهبات مار يوسف في القدس. ولما وافق والدها على التحاقها برهبانية القديس يوسف اشترط ألا تغادر سلطانة أرض الوطن بأي حال. فدخلت سلطانة الإبتداء في 30/6/1860 وارتدت ثوب رهبانية القديس يوسف على الجلجلة حيث نذرت في ما بعد نذورها الأولى. وعُيّنت مدرّسة في القدس واشتهرت بتقواها وتواضعها، واهتمت في القدس " بأخوية الحبل بلا دنس " للفتيات وأخوية أخرى للأمهات... ثم نُقلت إلى بيت لحم، حيث اعتنت أيضا بأخويات للبنات وللنساء، وهناك حظيت بظهورات العذراء والتي اقتبسنا منها ما أوردناه سابقا وسنذكرها بالتفصيل لاحقا.

التحقت الأم ماري الفونسين في ما بعد برهبانية الوردية، بالطرق الكنسية القانونية، وبقي سرّها مكتوما حتى مماتها يوم عيد البشارة سنة 1927. وكان مرشدها الأب يوسف طنوس قد أمرها بأن تكتب ما رأت من رؤى وما سمعت. وقبل وفاتها بأيام معدودات قالت لأختها حنة رئيسة الدير:" بعد موتي اذهبي إلى مكان كذا فتجدي دفترين مكتوبين بخط يدي، خذيهما وسلميهما إلى البطريرك برلسينا": فنفذت الأخت حنة رغبتها بعد مماتها. ولما كان البطريرك برلسينا يجهل العربية، طلب إلى الأم أغسطين ترجمة تلك الصفحات، ثم أمر بإعادة المخطوطين الأصليين إلى الرئيسة العامة التي اطّلعت على محتوياتها فسطعت الحقيقة كالشمس وقدّر الجميع آنذاك تلك الراهبة الوضيعة التي بقي سرّها وسرّ العذراء محجوبا عن العيون زمنا طويلا .

 

وفيما يلي محتوى الدفترين الذين اطلعت عليهما الرئيسة العامة لرهبنة الوردية آنذاك وسطعت حقيقة الأم ماري الفونسين من خلالهما بأنها المؤسسة الحقيقية لرهبنة الوردية المقدسة وهما مكتوبان طبقا لنسخة بخط اليد عام 1879

 

 المخطوط الأول ...

 

"يا سلطانة الوردية المقدسة صلي لأجلنا"

باسم يسوع ومريم ومار يوسف إني أنا الأمة الحقيرة الأورشليمية، أبدي بإيضاح وإيجاز جزءا وجيزا من إنعامات أمي سيدة الوردية طبقا لأمر من لا تسعني مخالفته وهو مرشدي الروحي الحقيقي حضرة الأب يوسف طنوس المحترم وقد حدث ذلك في الثامن من تشرين الثاني 1879.

فإليك التجئ أيتها البتول أمي القديسة طالبة المعونة متوسلة إليك أن تنيريني وتلقنيني وصف جزء مما تكرمت به عليّ من وفرة إنعاماتك وإحساناتك إليّ أنا الحقيرة العديمة الاستحقاق. فأرشديني وحركي يدي لأكتب دون غلط الحوادث الصعبة التي لا  يتيسّر لي إثباتها كما هي غير أني بعد اتكالي عليك أشرع في شرح ما حصل لي منذ عام 1874 إلى هذا اليوم فباركي يدي بيمينك القديرة وأنيري عقلي ونجيني من الزلل.

في السادس من شهر كانون الثاني 1874 يوم عيد الغطاس كنت أتلو السبحة الوردية على إنفراد في محل مزيّن للاحتفال بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح له السجود، ذلك في المدرسة الرعوية في بيت لحم، فما وصلت إلى تلاوة السر العاشر من أسرار الوردية، وأنا أتأمل فيه بإمعان حتى شعرت بقلبي يضطرم اضطراما شديداً بمحبة أمي مريم البتول وتجلّى لي بغتة نور عظيم بهيّ جميل لا يسعني وصفه وظهرت لي فورا الأم الحبيبة سيدة الوردية بشكل الصورة التي أثبتها فيما بعد، فقد رأيتها منتصبة وسط غيم يتلألأ نورا وشاهدت يديها مبسوطتين ولونها أبيض لامعا يتعذّر عليّ وصفه وشرح جماله وكانت السبحة الوردية معلقة على الصليب يزيّن صدرها وهي منحدرة على يديها وعلى قامتها بهيئة مدوّرة ورأيت في عقدة بيوت السبحة أنوار نجوم بوسط كل نجمة السر المختص به يمثل السر تمثيلا جميلا بهيئته، ولاحت لي أبيات الوردية الخمسة عشر في وقت واحد مع ظهور أمي الحلوة وكان فوق هامتها إكليل من نجوم مؤلف من خمس عشرة نجمة وتحت قدميها سبعة أنجم غائصة في الغيم تمثل أسرار أحزان مريم أمي وقد نظرت هذه المناظر كلها في وقت واحد.آه ما اسعد ذلك الوقت! وما أعذب ما شعر به قلبي من الشغف والحب ممّا يتعذر عليّ شرحه يا لها أما جميلة لا يتيسر لي وصفها ولا أرى صورة تحاكيها جمالا وبهاء على أني ما نظرتها عيني المرّة الأولى حتى أخذت اسكب الدموع الغزيرة وشغفت بمحبتها وانفتحت يداي وارتفعتا لمعانقتها وضمها إلى قلبي، وبينما كانت تلك العواطف آخذة بمجامع قلبي كنت أراها تزداد لمعانا ونورا وهي تروم الدنو مني، وقد منحتني هدوءا وحرية لكي أتأملها جيدا فشاهدت الصليب على صدرها والسبحة على ذراعيها ويديها وقامتها كلها ورأيت أسرار الوردية تزداد بهاء ونورا وتوعبني حبا وشجاعة فدنوت منها..... وبعد هذا لست أدري ما حدث لي إنما أعرف أني مكثت في هذا الاختطاف الحلو من الساعة التاسعة صباحا إلى الساعة الأولى بعد الظهر فغابت عني حالا وتركتني بهدوء وسلام وتعزية روحية فائقة الوصف واشتياق عظيم إلى رؤيتها ورغبة قلبية شديدة في ممارسة أعمال عظيمة شتى وفضائل وافرة حبا للخير العام وحبا" لها ولا سيما ممارسة الإماتة الداخلية القلبية والانتباه الشديد إلى هذا الصنع النافع الخلاصي. فصرت مذ ذاك أنكر على قلبي حتى كل عاطفة حلوة لذيذة وأميت ذاتي في كل نوع استسهله. وقد تشرفت بزيارة أمي الحبيبة فأصبحت مجردة من كل عاطفة أرضية ومن كل ما يؤول إلى الزوال وغدوت متعطشة إلى احتمال كل صعوبة وكل مشقة مهما كانت وصرت استحلي كل مرارة وعذاب وأحسب الإنفراد فردوسا لذيذا والطاعة بهجة لقلبي وروحي واستسهلت تتميم أوامر رؤسائي ومراسيمهم بمحبة لا توصف وأفاضت أمي علي غزير الفضائل دون استحقاق مني أو تعب للبلوغ إليها وقد أحرزت هذه الجودة كلها كرما من فضلها الوالدي.

في اليوم الأول من الشهر المريمي في السنة ذاتها، إذ كنت متوجهة إلى مغارة السيدة أم الحليب في بيت لحم أتلو السبحة الوردية في الطريق كعادتي وألفظ " السلام لك يا مريم" سمعت صوتا حلوا يقول لي " السلام لك يا مريم" فرفعت عينيّ نحو السماء فإذا بأمي الحبيبة وقلبها مفتوح تمرّ أمامي بين السحاب وما عتم أن ظهرت لي ثانية حتى إذا دنوت من المغارة ظهرت لي ثالث دفعة ولبثت زمانا حتى شفيت غليل أشواقي بعذوبة بهجتها ثم غابت عني وقد حفظت هذه الرؤيا في قلبي سرا لئلا يفهم أحد ما الذي حدث لي. وكنت أقول لها أثناء صلواتي يا أمي ما لك تتساهلين وتزورينني هل نسيت إني خاطئة عظيمة وقد ارتكبت ألوفا من الآثام! وكنت أقول لها متعجبة: أخاف أن يكون هذا غشّا وتجربة لأني مقتنعة أني لا أستحق البتة هذه الإنعامات السماوية. ثم أني كنت أصلي بلا ملل وأسكب الدموع الغزيرة وأسأل الله تعالى أن لا يدع الشيطان يخدعني ملتمسة منه بكل قلبي أن يبعد عني كل خداع وتجربه وغلط بجاه محبة أمي.

في اليوم الحادي والثلاثين من الشهر المريمي إذ كنت منفردة وقت المساء في المحل الذي ظهرت لي مريم أمي أول مرة أتلو الوردية حسب عادتي ظهرت لي أمي بغتة ظهورا ثانيا فرسمت جبهتي بإشارة الصليب وشاهدتها بنور صاف كالإبريز والمسبحة الوردية بين يديها كالمرة الأولى يكتنفها خمس عشرة نجمة وتحت قدميها سبعة نجوم مكتوب عليها بحروف ذهبية لامعة أفراح مريم البتول  وأحزانها وشاهدت فوق  إكليلها مكتوب بتولات الوردية السرّية ضمن نور صاف وكانت الكتابة أيضا بنور صاف يتعذّر عليّ  تشبيهها وشرحها بالكلام فسكبت قلبي حين ذاك بمحبتها وتمتعت برؤياها الحلوة  العجيبة وهي وحدها تعرف ما خالج قلبي حينذاك من عواطف المحبة التي التهبت بي من كرمها وعلى هذه الصورة غابت وتركتني كأني في فردوس سماوي وأصبحت حالتي حالة محبة لا يمكن شرحها.

مساء عيد الغطاس سنة 1875 كنت في محل الوردية ذاتها أتأمل في عظم سمو محاسن أمي مريم وأخجل من عجزي عن الإقتداء بفضائلها فأخذت ألتمس منها نعمة فعالة تجعلني أن أقتدي بها في ما تبقى لي من حياتي لأن ما قضيته من عمري قضيته بالخطايا عوضا عن الفضائل تلك حسرة قلب شديدة ما برحت أشعر بها وأقول متأسفة أواه ليتني أبدا اليوم حياتي فكنت بعون الله تعالى أعيش أحسن مما عشت إلى الآن فلما كانت تتجاذبني مثل هذه الخواطر والعواطف شعرت بأفكاري مجتمعة اجتماعا غريبا ورأيتني غارقة في بحر جوده تعالى وأبصرت نورا عظيما بهيّا جميلا يبهج النظر ولا يزعجه أبدا. فتعزى قلبي إذ ذاك وظهرت لي أمي الحلوة في وسط هذا النور حاملة الوردية كالمرّة الأولى إنما بجمال أبهى وأكمل مما سبقت فرأيته وشاهدت صفّين من البنات إلى يمينها ويسارها هيأتهن كهيئتها وثيابهن كثيابها ولمحت حروفا نورية مكتوبة في ذلك النور معناها " بتولات الوردية" " رهبنة الوردية". وإذ ذاك سمعت صوت أمي ضمن قلبي وهي تقول: " أريد أن تبتدئي رهبنة الوردية " .
 

وكانت تنظر إليّ نظرة عطوفة أفعمتني لذة وعذوبة وسالت الدموع الغزيرة من مقلتيّ وأصبحت كأني في فردوس سماوي. وأوعبتني تعزيات حلوة وغابت وتركتني على هذه الأرض جريحة محبتها، غير أنها بعد هذه الزيارة العجيبة أبقت فيّ أثرا غريبا هو نور مريمي انطبع في عيني لا يسعني إلا السكوت عنه لأنه يتعذر عليّ شرحه. وقد فهمت مما حدث بي معنى هذه الكلمات وهي " ما هو مستحيل عند الناس فهو ممكن عند الله " وقد غدوت أنظر ذلك مرارا شتىّ لا تعدّ ولا تحصى في كل مكان وفي كل أوان وخصوصا وقت احتياجاتي. فإنها كانت تسرع إلى معونتي وإنقاذي بنوع أنظره بعيني، وكانت تلقنني بنوع أفهمه إشارات منظورة تدلني على بعض أمور مستقبلية وقد منحتني عبادة حارة ليسوع إلهي في القربان الأقدس ولتلاوة السبحة الوردية وممارسة رياضة درب الصليب فكنت أرغب أن أميت ذاتي وألا شي جسدي حبا لذلك الإله الذي أخلى ذاته ومات لأجلي.
 

ما مرت ثلاثة أيام على ذلك حتى حضرت إليّ إحدى بنات الأخوية تقول : إنها بينما كانت تحضر القداس أُلهمت أن تبلغني أن أنشئ رهبنة على اسم الوردية المقدسة ينضمّ إليها بنات جنسنا فقلت لها: يلزمنا أن نصلي إلى أمنا مريم البتول كي نعرف إرادة الله تعالى في ذلك وبعد قليل كثُر عدد البنات اللواتي أخذن يقدمن صلوات حارة وينشئن أعمالا صالحة ويعكفن على الصوم والإماتة والأتعاب الشديدة الوافرة لنوال نعمة إنشاء رهبنة الوردية المقدسة، وما أحلى عيون المحبة التي أفاضتها العذراء بجودة وسخاء على بنات جنسها المحتقرات من جميع القبائل. وفي تلك الغضون رأيت في الحلم أمي مريم البتول يحيط بها بنات عديدات متشحات بثياب بيضاء وزرقاء كما رأيتها سابقا غير أنهنّ في هذه المرة كنّ متسربلات بثوب من نور. وإذ ذاك قبضت مريم على يدي شديدا وقالت لي: " أريد أن تؤسّسي رهبنة الوردية أما فهمت بعد هذا؟ " فقلت لها: إني حقيرة فقيرة أرجو منك أن تقبلي أختي حنة وتمهدي إليها هذه الخدمة أرجو أن تنعمي عليها بأن تكره الدنيا وتنصرف إلى محبتك وخدمتك الشريفة، أما أنا فلن أغمض عن ذلك لكني مستعدة لكل تعب تقتضيه الرهبنة. قالت : إني أقبلها وفقا لطلبك فاتكلي على رحمتي ولا تخافي، فإني كما سبقت فأعنتك في إنشاء ثلاث أخويات باسمي وقد نجحت تلك الأخويات بمعونتي هكذا أشير عليك أن تنشئي هذه الرهبنة وأنا أعينك وكوني على ثقة أن أخوية الوردية ورهبنتها ستنجح وتتوطد إلى يوم الدينونة بشرط أن تباشريها طبقا لأمري وإلهامي. ثم أمسكتْ بيدي شديدا وعلّقتْ في عنقي الوردية التي كانت بيدها وقالت لي: " أنا أمك أعينك وأساعدك" حينئذ تركتْ يدي وقالت : " باشري العمل واقصدي بادئ بدء البطريرك منصور وبلّغيه ذلك فهو يدبرك لأنه بالوردية سيصير نجاح روحي في جميع إرساليات أبرشيته وفي غيرها" ثم غابت عني وأفقت من نومي.
 

لما كنت أصلي يوم عيد اسم يسوع شاهدت وسط نور عظيم علامات هائلة مريعة تدل على حرب شديدة، ورأيتُ جماهير غفيرة معهم صليب وقد فازوا بالغلبة في تلك الحرب، وبعد هذا ظهرتْ لي البتول أمي بصحبتها عذارى الوردية وكان على صدرها صليب وهي تنظر إليّ بعين الحنوّ والعطف فخمّدت قلقي وأعادت لي السلام وسكبت على قلبي تعزية أزاحت عني ما لحقني من الحزن لدى مشاهدتي تلك الحرب الشديدة، وبعد هذا تغّيرتْ حالتي فكنت تارة أتعذب عذابات فادحة باطنا وظاهرا وطورا كنت أتعزى بمناظر بهيّة عذبة حلوة يتعذّر عليّ وصفها وكانت سيدة الوردية تفتقدني مرارا شتى بأنواع تفوق العقل البشري فأقول حينذاك إن جودة أمي مريم لا حدّ لها وأن الألسنة تعجز عن شرحها وأن لا كتب ولا صور تستوعب تفسيرها وتمثل جمالها. ثم أهتفُ قائلة طوبى لمن يتمتع بها سرمدا. وقد أصبح عقلي وقلبي متشبثا بالصلاة العقلية واللفظية بحيث أن صلاتي هذه كانت ترافقها غالبا دموع غزيرة وكانت التعزيات الروحية تفاض عليّ على أثر عذابات قاسية شديدة فكنت أكرر هذه العبارات ربي والهي امنح نعمك ومواهبك الكريمة لمن يستحقها ودعني أنا الذليلة الحقيرة أبكي على كثرة آثامي وعلى خطايا حياتي الماضية فإن قلبي عاجز عن قبول تعزيات عظيمة هكذا فامنح هذه التعزيات لمن أرضاك دائما، أما قلبي فإنه غير كفؤ بصلاحك وآمتك الحقيرة لا تستحق رفعة الأحباء. بعد هذا قصدت زيارة غبطة البطريرك منصور وشرحت له بصعوبة شديدة حال نفسي وموقفي. غير أن المحبة الذاتية صدّتني عن أن أطلعه عن تأسيس رهبنة الوردية.فاستشرت غبطته في أمور كثيرة روحية وعرضت عليه ما ظهر لي من إنعامات البتول أمي وما قيل لي عن سيدنا يوسف فاليركا وعن الحرب وعن كل ما شاهدته في الجو وفي أوقات الصلاة وعما كنت أعرفه عن بعض أشخاص. فأرشدني غبطته وهدّأ روعي بتعليماته الصافية المقدسة. وأمرني أن أكشف ضميري للأب أنطون بللّوني وأمتثل نصائحه وأوامره، وأوصاني أن أراجعه وقت الضرورة وحرّضني على استئناف الصلوات ومواصلة السبحة الوردية قائلا :إن كثرة الصلوات تنفع دائما.
 

لما كنت اسمع القداس في كنيسة مهد الميلاد ببيت لحم يوم عيد الغطاس لاح لي بعد كلام التقديس نور ساطع صاف فوق الكأس ثم ازداد ذلك النور  وانتشر فوق المذبح وظلّل الكاهن وكنت أرى أحيانا أن أشعة ذلك النور تنبسط وتمتد إليّ، ثم شاهدتُ نورا بهيّا انبثق من الذبيحة ووصل إليّ فأبصرت أسرار عيد الغطاس بصورة فائقة الوصف وبهيئة جميلة جدا لا أستطيع إلى التعبير عنها سبيلا،شاهدتُ الطفل الإلهي يسطع نورا وبهاء والقديس يوسف يتفرّس فيه أحيانا، وأحيانا في أمّه ساجدا بالقرب منهما، ورأيت الملوك الثلاثة وهداياهم بشكل عجيب جدا ثم شاهدتُ مار يوحنا يعمّد يسوع والماء كنورٍ يُسكب عليه، ولم أكن حينذاك أعرف أو أدرك ما أراه. فكأني بكليتي كنت إذ ذاك بالله. ثم غاب هذا المنظر وأصبحت في سكينة عظيمة وامتلأ قلبي حرارة وحبّا للّه تعالى وشعرت في ذلك اليوم بقوة مكنتني من حضور خمسة عشر قداسا جاثية مبتهجة وقد تجددت لي هذه الرؤيا خصوصا لدى سماعي القداس الخامس والقداس العاشر والقداس الخامس عشر. وعلى أثر ذلك تجلّت لي سيدة الوردية وحولها العذارى يسجدن للأسرار الإلهية وحدثتْ حركة ظريفة عند آخر الرؤيا يتعذر عليّ شرحها فإنَ شعاعا نوريّا انبثق من أمي البتول ونفذ فيّ فغدوت حينئذٍ جريحة محبتها وسكبت دموعا غزيرة .
 

وتأجّج قلبي بنيران المحبة للّه وللبتول ثم خرجتُ من كنيسة المهد أُردّد السلام الملائكي شاعرة بقوة عظيمة للاحتمال وبمحبة غريبة ملكتْ عليّ في مسيري وكانت أمي المحبوبة ترافقني في طريقي على شكل نجمة بهيّة، وما برحتْ هذه النعمة ملازمة لي، تغيب طورا، وتظهر طورا وتنعطف وتمكث معي وتعزيني،على أني بعد مشاهدتي هذه الرؤيا في القداس الإلهي أصبحت أشاهدُ في كل قداس وفي كل زياح قربان أحضره نورا ساطعا ينبثق منه شعاع يخرق قلبي فأرى ربي والهي يسوع المسيح كإله وإنسان متلألئا بأنوار لطيفة حلوة فائقة الوصف وأرى معه أمي البتول الحنون، وأُبصر في ذلك النور أسرار مواسم الكنيسة واحتفالاتها وأعياد القديسين، كل قديس يوم تذكاره مع شارات أعذبتهم التي أنهوا بها حياتهم فأشعر بما يشعرون من الراحة وبما يتمتعون من المجد، فأتعزّى جدّا بتذكاراتهم ولا سيما تذكارات أمي البتول وأبتهج باستمرار تلك الأنوار تجاهي زمانا طويلا وتجديدها مرارا عديدة على أني لا أستطيع أن أعبّر عن جودة الله وكرم أمي وإحسانهما إليّ مهما اجتهدت ومهما حييت كما أني لا أقدرُ أن أوفيهما حقوق الشكر على ذلك. ولذا فإني أرجو من مراحمه تعالى أن ينعم عليَ أن أمجده سرمدا في الأبدية السعيدة التي أتوقعها، غير أني كنت أكرر عبارات وعواطف بفمي وقلبي وأقول: أوّاه يا ربي إن كنت تجود هكذا بتعزيات على خطاة لا يفتشون عنك فما عسى أن تكون محبتك لأصدقائك وأوفيائك.

ويوم عيد الغطاس أيضا عام 1876 تجلّى لي في مهد الميلاد نور وقت القداس أبهى وأجمل من ذي قبل في حال هدوء وصفاء رائق جدا ولاحت لي فيه أسرار الوردية وأسرار هذا العيد المجيد وسيدة الوردية في زمرة من العذارى حولها وسمعت ذلك النهار عشرين قداسا بانتباه كامل لم أشعر به فيما سلف، فكنت أشاهد الكاهن والمذبح مجلّلين بأنوار كانت تدنو مني وتتلاشى، فأتصور أني مضيئة بجملتي بتلك الأنوار خائفة من أن يراني أحد شاعرة بشيء حلو مبهج غير اعتيادي فكنت أغمض عن ذلك ثم كنت أشعر بمثل هذه الأنوار بعد تناولي اليومي، وكانت تلك الأنوار تلبث زمانا أطول أيام المواسم فأشاهد فيها وفي سيدة الوردية أمي وفي هذا النهار ازدادت نعمة الله عليّ بعد التناول فأبصرت غيمة فوق رأسي وتجاهي يتوسطها يسوع حبيب نفسي بصفات شتى، فكان يريني أحيانا حال الذين كنت أتضرع إليه من أجلهم وما سيحدث لهم، وهذا كان يدوم كل مدة الشكر ثم ينتهي، وكنت أشعر بمحبة وحرارة لمباشرة أعمال عظيمة صالحة واحتمال عذابات شديدة حبا له تعالى. ولو سوّغت لي الطاعة لضحّيت بذاتي ولاشيتها حبا ليسوع إلهي، وقد تحولتْ مذ ذاك الإماتات إلى راحة و الاضطهادات إلى فرح. وصرت أعتبر التوبيخات كأنها إكرامات ومدائح فلا أحتملها بصبر فقط بل أفتش عن فرصة للاحتمال والعذاب. ليت شعري ممّن حدثت لي هذه الحالة العجيبة إلا منك يا الهي يا من غيرتني! فلك الشكر دائما . وبعد هذا  أخبرت مرشدي بحالتي هذه وطلبت مشورته في كل شيء فعلّمني كيف يلزمني أن أسلك وأوصاني بأن أكتم ذلك كله كتمانا عميقا وأمرني أن أصلي تساعية التمس من أمي البتول لتلقنني ما تريده مني وأهيئ ذاتي لخدمتها في كل شيء.

ثم وعدني بأنه يصلي لأجلي في القداس مدة هذه التساعية، ولما أنهيتها رأيت هذه الرؤيا: رأيت مريم البتول أمي يحيط بها جمهور من البنات متوشحات بثوب رهباني أزرق وأبيض وكانت أمي مريم متوشحة مثلهن، وكعادتها نظرت إليَ بعطف وأخذت تخاطبني قائلة: " متى تباشرين رهبنة الوردية؟ " تشجعي وتممي أمري، أما فهمت؟ إني أريد رهبنة الوردية، رهبنة الوردية فإنها مزمعة أن تنزع من الأرض كل شر وبلية "، فقلت لها: يا أمي امنحيني الوسائط اللازمة فإني مستعدة، قالت: " إن الوردية هي كنزك فاتكلي على رحمتي وثقي بالجود الإلهي القدير وأنا أعينك" ثم ألقت إليّ السبحة من يدها وغابت.

وليلة أخرى رأيت يسوع طفلا وأمه، فصرخت قائلة: يا أمي، وجثوت على قدميها فأنهضني يسوع ومدّت أمي مريم يدها فقبلتها آه ما أعذبها! ثم دخلنا معا إلى محل اسمه الفردوس. وكفاني هذا الاسم لإظهار غبطتي هناك، شاهدت فيه مار يوسف العظيم شأنه فسألته كيف أعمل لأباشر رهبنة الوردية مع أني في رهبنته، قال:" أني أريد أن تصنعي بفرح ما أنت مدعوة إليه" ولاح لي بغتة نورٌ عظيم تجلّت فيه مريم أمي ومعها يسوع الحلو، وخاطبني إذ ذاك مار يوسف قائلا: " إننا قد فرحنا وحزنّا وتمجدنا معا " فأريد إن تخرج من رهبنتي رهبنة الوردية، ثم أمسك بيدي وقال: امضي بسلام واعلمي أنه في هذا الشهر تذهبين لمباشرة دعوتك هذه بإنشاء رهبنة الوردية وانتهت الرؤيا إذ ذاك وأفقت.

شعرت منذئذٍ بفرح وثقة عظيمة وأصبحت بحالة شوّقتني إلى النهوض بأمر أمي مريم بكل قلبي، غير أن ذلك تعذّر عليّ لأن مرشدي كان متغيبا في سفر بعيد.

أما البنات الملهمات بالانخراط في سلك الرهبنة فكنَ يثابرن على الصلاة والتقشف لمنال هذه النعمة على رغم الخوري الذي كان يمانعهن ويستهزئ بهنَ وبالتماسهنَ من الله تعالى رهبنة الوردية. فأصبحنا والحالة هذه لا معين لنا سوى الله عزّ وجلّ. وكنا حزانى حيارى من تصرف ذلك الخوري على أنه في تلك الأثناء ظهرت لي أمي في الحلم قائلة: "إن هذا الخوري لا يحبني فقولي للبنات أن لا يفاتحنه في شأن رهبنتي". وبعد هذا تعذبت شديدا وتعزيت أيضا كثيرا. وكان عذابي بمقدار تعزيتي. ولم أسمع بعد كلاما في الرؤيا أبدا إنما كنت أشعر بالهامات شتى لاصطناع خير خصوصي وبوسائل تسهّل إنجازه. وهكذا لبثت زمانا دون مرشد مما سبّب لي عذابا أليما. فكنت أتوسل إلى الهي بدموع غزيرة كي يهيئ لي مرشدا صالحا خبيرا يفهم حالتي فيرشدني ويدبرني حسب قلبه الأقدس. غير أن الخوري المؤما إليه كان مرشدنا في تلك الأثناء فكان يضطهد البنات ويحرّج عليهنّ طلب رهبنة الوردية، وأنا لم أكن استصوب أن أكشف له ضميري، غير أن تعزز الحصول على إذن يجعلني أستغني عنه اضطرني أن أستشيره كرما مني وخيفة أن يعّريني في موقف كهذا خداع شيطاني أو غلط يفيض بي إلى الهلاك، فاتكلت على الله وكشفت له شيئا عن حالي لأتعلم كيف أسلك في هذه الطريق الصعبة الخارقة العادة، وكنت أردد هذه العاطفة : " يا ربي ألهمني فإنك أكرم دليل".

بناء عليه قصدته في 18 أيار متكلة على معونة مريم أمي وشاورته ثانية في أمري بكل  اتضاع واحتشام، فلم يصدقني بل قال لي: تلك أحلام وخفة عقل. ثم أمرني أن أقبّل الأرض  وألتمس من الله أن يغفر لي هذا الكلام الجسور وأشار عليّ أن لا أنظر إلى صورة أمي البتول قطعيا أينما كانت ولا أدنو من هياكلها أصلا.وأنها إذا تجلت لي بعد ذلك يلزمني أن أكون بالصلاة وأتسم بإشارة الصليب بالماء المبارك. وحتّم عليّ أيضا أن لا أرفع عيني أبدا وقت القداس ولا أنظر هذا النور الظاهر وإذا نظرته لزمني أن أحسب كم مرة نظرته وأقر معرّفة بذلك. ثم صدّني عن التناول اليومي وأباح لي التناول مرتين في الأسبوع فقط، على أني خضعت بقلب سليم لكل ما أمرني به وأتممته على رغم ما انتابني من الألم والعذاب فكنت أتنفس الصعداء وأقول: ما أقسى هذا الإرشاد! وما أشد توجع قلبي! غير أنه إذا كان الأب قاسيا فإنَ الأم حنون عطوف، أجل إنها تحننت عليَ وأصبحت تتجلى لي أكثر من ذي قبل  وتدنو مني وتلج إلى قلبي وتفعمه لذة فيغدو كفردوس سماوي، وهكذا لما كنت أتناول تناولا روحيا كانت أمي البتول تدنو مني أيضا ملتحفة بأنوار ساطعة حاملة بيدها شيئا من نور مدوَر وتلج في قلبي فأشعر كأني أتناول القربان الأقدس حقيقة وأحسّ بحلاوة عسلية تتصبّب بفمي فأؤّجل تناول الطعام قدر ما يمكن خيفة أن أفقد تلك الحلاوة الغريبة، وأصبحت أراني منيرة أكثر من قبل حتى أني ما كنت أجسر أن أغسل وجهي لئلا أخسر هذا النور، وكنت أنتبه ليلا وأشاهد نورا عظيما في الظلام، وعند انتباهي كنت أسمع نافذة من مدائح مريم أمي وأشعر بيدٍ لطيفة تمسكني وصوت يخاطبني قائلا": "السلام لك يا مريم"  فينتعش قلبي بمحبة أمي وأتلو الوردية بأجمعها، على أن المرشد لما حرّج عليّ تلاوة الوردية صرت أعوّض عنها بالتأمل في أسرارها فكنت أتمم أمر مرشدي بتدقيق معتقدة أن الطاعة هي تعزيتي وعذوبتي وفردوسي، وقد منحتني أمي هذه النعمة منذ حداثتي كرما منها، وبعد مرور ثلاثة أشهر على هذا الإرشاد القاسي استدعاني مرشدي وسألني هل أكملت جميع أوامره ونواهيه واستفسرني عمّا عرض لي فصرّحت له بأني أنجزت أوامره حرفيا وأن أمي دبَرتني في تلك الأثناء فأمرني أن أسألها متى رأيتها عمّاذا تريد مني ولّما تجلت لي سألتها فلم تجبني لأن في تلك الغضون لم أكن أسمع كلاما روحيا بل كنت أشاهدها في ذلك النور ضاحكة مبتسمة تعزيني.

وبعد هذا تراءت لي في الحلم قائلة: "باشري رهبنة الوردية وأنا أعينك"  ثم غابت عني وانتبهت من رقادي، وقصدت مرشدي وأطلعته على ذلك في سر الاعتراف، فاستأنف تصرفه القاسي معي مدة سنة كاملة ويوم واحد، وبعد هذا سمح لي أن أتناول يوميا وأتلو الوردية وأدنو من مذبح أمي وأزينه وأستعمل الإماتات الجسدية التي سبق فمنعني عنها وأنظر إلى القداس، وأطلق لي الحرية التامة لعبادة مريم أمي. في السنة 1877 بعد التناول  شاهدت إذ ذاك يوم عيد سيدة الوردية يسوع إلهي متلألئا بنور عظيم وعزاني جدا ثم تغّير شيء من ذلك النور فنظرت به ديرا مدوّرا على شكل سبحة سيدة الوردية واقفة على سطحه يحيط به خمس عشرة نافذة في كل منها راهبة من راهبات الوردية وعلى هامة كل منهنّ اسمها واسم أسرار الوردية هكذا: مريم البشارة،  مريم الزيارة،  مريم الميلاد، وهلّم جرّا، ورأيت ذاتي في النافذة العاشرة باسم مريم الصليب، وكانت سيدة الوردية منتصبة فوق باب الدير تتفرس فيّ بعواطف الشفقة  والحنان وقد أفعمتني بهجة ونورا، وبعد هذا لست أعرف ما عرض لي، لأني شعرت بأن قلبي قد ذاب من المحبة، ومن يحبّ يفهمنيn.

ثم رأيت أمي البتول متسربلة بالنور وقد مدّت يدها  وأمسكت يدي وفتحنا كلتانا باب الدير المذكور فأرتني راهبات الوردية كل واحدة في موضعها تحدق بهنَ عدة بنات كل واحدة باسم سر من أسرارها، وشاهدت جمعية بنات تحيط بكل منهنَ راهبة من الراهبات، ثم انفتح قلب أمي البتول فدخلن إليه جميعا، يا له مسكنا سعيدا أُعدّ لرهبنة الوردية المقدسة! ورأيت ليلة كأني في دير الوردية ومريم البتول أمي معي متوشحة بثوب راهبات الوردية مثلنا، وعدة راهبات وبنات في خمسة عشر صفا’ في كل صفٍ واقفة أمي البتول بوقت واحد، وكنت أراها بالقرب مني تحادثني قائلة: " الآن نصنع هذا ثم نصنع هذا فكان يتم كل شيء طبقا لأمرها وكنت في تلك الرؤيا احسب أني سكنت الدير زمانا طويلا أتلو مع الراهبات صباحا جزءا من الوردية أعني أسرار الفرح ونتلو عند نصف النهار أسرار الحزن وعند المساء أسرار المجد وكانت الراهبات يتلون الوردية بالمناوبة كل واحدة بدورها وهي ساجدة أمام مذبح سيدة الوردية وينتهي النهار بتلاوة فرض السيدة الصغير أعني فرض القديس بونافنتورا لمنال الميتة الصالحة، وكنا ننهض نصف الليل وأمنا مريم البتول معنا منصّبة على مذبح بهيّ لامع فنتلو جميعا الوردية كاملة ونرتل السلام الملائكي ونعود إلى الرقاد حتى الصباح.

وكانت تنشد في الدير دائما أنغام مستعذبة، وفي يومي الأربعاء والسبت كان يصير صوم خصوصي إكراما للوردية، وبعد هذا شعرت بان أمي أمسكت بيدي وقالت لي: " اصنعي مثلما نظرت" ثم أمسكتني شديدا وقالت: " كما أني أنا أمسكت بيدك هكذا أريد أن تتلى في الدير الوردية الدائمة ليلا نهارا، فحدقّت فيها ورأيتها تودعني فتشبثت بها بشدة محبة قلبي وابتهلت إليها أن تأخذني معها ولا تتركني، فأنهضتني بيدها إذ كنت جاثية على قدميها وشجعتني قائلة: " ستأتين معي بعدئذ عندما تتممين إرادة الله وإرادتي وتصنعي كما رأيت وكما أوصيتك واعلمي يا ابنتي انه سيصير ابتداء عمار دير الوردية في القدس بعد خمسة عشر سنة، أما أنت فبعد أن تكوني قد تعذبت واحتملت كثيرا من ذات راهبات الوردية ستأتين معي". قالت هذا وباركتني وانصرفت، فانتبهت وكأني محاطة بنور عظيم وطفقت أتلو صلوات لفظية حارة متضرعة إلى أمي الحبيبة أن توفقني في تتميم إرادتها.

 

آه يا مريم أمي ترى من يفهمك! بل من يمكنه أن يدرك جودتك وشفقتك على بنات جنسك ولا سيما على الحائرات في أمر معيشتهن.

ويوم سبت بعد انتباهي من النوم أخذت أتأمل أسرار الوردية واستغرقت في التأمل من دون أن أشعر أني كنت مختطفة بمحبة مريم، فرأيت كأني في دير الوردية أمام مذبح أمي وكأن عدة راهبات وبنات معي نتأمل معا قبل القداس في تقدمة يسوع إلى الهيكل، ثم نظرت ابنة عذراء دخلت باب الدير وقد أمسكت أمي مريم بيدها وبيدي فدرنا بها معا وقدمناها للكاهن والكاهن قدمها لله أمام المذبح الذي كانت واقفة عليه أمي البتول والسبحة الوردية على يديها فخرَت تلك البنت جاثية على قدمي أمنا مريم البتول وقبّلتهما، ثم طفقت تتلو السلام الملائكي حتى كررته ألف مرة، وكنت أسمع إذ ذاك نغمات الملائكة يتلون معها السلام ويعدّدنها المرة بعد الأخرى، وكانت حينذاك خيمة بيضاء متلألئة  بأشعة بهية قد خرجت من لدن أمي البتول ووقفت فوق هامة تلك العذراء المتوشحة بثوب راهبات الوردية، وكانت البتول مريم تسكب عليها رويدا رويدا صبغة من الفضائل السامية التي تزين الأنفس المستعدة لقبول مواهب مريم أمي، وعند نهاية السلام الألف انحدرت الأم الحبيبة وأمسكت البنت بيدها اليمنى وأمرتني أن أمسك يدها اليسرى وهكذا سرنا ما بين أناشيد الملائكة المحيطين  بأمنا حتى بلغنا إلى مذبح مزدان بأفخر زينة تدّبجه صورة العذراء سلطانة الوردية طبقا للصورة المثبتة آنفا، وكان المرشد المختار من أمي البتول واقفا هناك فرّحب بالابنة ووشحها بثوب الرهبنة وباركها باسم الأب والابن والروح القدس ، ثم أخذ الوردية من يد البتول أمي وطوّق بها عنقها ووضع يديه قائلا" : " أثبتك باسم أفراح مريم البتول وباسم أحزانها وباسم أمجادها". ثم كلل هامتها بإكليل من ورد، ثم طفنا حول المذبح الشريف بين أناشيد الراهبات ترافقنا أمنا الحلوة والمرشد الأمين، وكانت أصوات سماوية ورائحة عطرية ولذات سماوية تشغف الفؤاد شغفا جعلني أغيب عن وجدي، ثم شعرت بأن يد أمي البتول تقويني قائلة: " قد جرى هكذا أمامك وبك لتفهمي أنه على هذا النمط ينبغي أن يكون دخول البنات في رهبنتي هل فهمت؟".

 

وبعد ذلك رأيت تلك الراهبة الجديدة منفردة تصلي عاكفة طول  النهار على الصوم والصلاة ومحبة أمنا مريم البتول، وكنت أظن أني ساكنة زمنا طويلا في الدير أنظر فيه مذبحا مزينا لأمي الوردية وراهبة ساجدة أمامه تتلو السبحة ثم تأتي غيرها وتعمل عملها بالمناوبة ليل نهار، وكانت أمي البتول تكرر القول بأنه يلزم أن تكون الوردية دائمة في الدير. الوردية دائما في الدير. يتلوها راهباتي والبنات، وكنت أشاهد الراهبات قاطبة يمارسن طاعة تامة إكراما لأسرار فرح أمي وفقرا جزيلا إكراما لأسرار أحزانها وعفة وطهارة نقية إكراما لأسرار أمجادها، فكَن بهذه الفضائل الثلاث يكرمن سيدة الوردية فتبتهج بذلك وتزّين أنفسهنّ بالمواهب السماوية وتسكب على أغلبهنَ استعدادا وسهولة ورغبة للسير في طريق الفضيلة والكمال.

 

بعد هذا كله  أصبحت حائرة في كيف ينبغي أن أترك أخويتي التي أحبها حبا جما أعني رهبنة مار يوسف إذ كنت مشتركة فيها منذ ثلاث وعشرين سنة مطمئنة موفقة مع رؤسائي وأخواتي ومدارسي وبنات أخويتي، بيد أني حبا لمريم وإكراما لها عزمت أن أطيع صوتها وأضحي بذاتي في رهبنة الوردية المقدسة واثقة بمعونة أمي معتقدة أنها تصحبني وتعضدني دائما.

غير أني علما بعجزي وتقصيري عن إنشاء هذه الرهبنة قدمت أختي حنة لخدمت أمي البتول فكنت حين أصلي وأناجي أمي أكرر قائلة " يا أمي اقبلي أختي معي فهي أفضل مني امنحيها الدعوة إلى رهبنة الوردية، وجودي عليها بأن تكره العالم وترفض نصيبه الجيد. وبعد صلوات متواترة شعرت بأنها لبَت طلبي، ذلك إني نظرت بعدما تناولت القربان الأقدس يسوع عريس نفسي قد قبل أختي حنة عروسا له، وقد نظرت ذلك وسمعته وشعرت بمذاق حلاوة المحبة فابتهج قلبي وهدأ روعي وتيقنت أن أختي أجدر مني وهي قادرة أن تساعدني كثيرا في هذا المشروع، ففرحت أياما كثيرة مبتهجة شاكرة الله على قبولها، وهنأت يسوع بعروسه الجديدة ومن ذاك عزمت عزما ثابتا أن أعلن ذلك كله للمرشد الذي تتوخاه أمي، وطفقت أتلو صلوات حارة وأمارس تقشفات جزيلة وأحث البنات ليصلين لأجلي والتمس من أمي ليل نهار أن تتنازل وتطلعني على ما يلزمني أن أشرح له حالتي ودعوتي وتريني من هو هذا الذي تصطفيه محبتها لإنشاء هذه الرهبنة لأن ما كابدته من المرائر والعذابات من المرشدين الغير الخبيرين اضطرني أن لا أثق بالناس فكنت أصلي والتمس وأترجى منها لتطلعني بعلامة واضحة عن المرشد الحقيقي وكنت أسألها أن يكون المختار من أبناء جنسنا الشرقيين، إنما كان قلبي مضطربا وكان صوت خفيّ يناجيني قائلا: "تممي إرادة أمك" وبعد هذا مرضت أختي ريجينا مرضا فظيعا مريعا اتخذته قصاصا لي لأني أهملت الدعوة إلى رهبنة الوردية وتشبثت برهبنة مار يوسف وبراحتي وخفت الاحتمال المزمع أن يحلَ بي من جرى ذلك إذ صرت أقصد تارة وتارة أخالف قصدي أو أريد مرة ومرة لا أريد، ولما كنت يوما التمس من أمي بحرارة شفاء أختي ريجينا ووعدتها أني أنجز رغبتها إذا تكرّم الرب علينا بمنال رغبتنا فأخذت من ثم التمس إشارة عمَن يكون المرشد، فكنت أصلي وأبكي وأتنهد وأقول: " يا أمي من هو؟؟ ولمن أبلغ سرَك؟"

 

وأخيرا رأيت إكليلا من نجوم على وجه الأب طنوس الموقر يلمع كثيرا، وتجدّد هذا المنظر نحو سبع دفعات في أوقات مختلفة وشعرت بصوت يخاطبني قائلا: هذا هو المرشد المختار من أمي  مريم البتول فعزمت أن أقصده وأفاتحه في ذلك ولكني كنت أخجل وأسكت وأتضرع  إلى أمي كي تعينني.  ليت شعري ما أصعب فتح القلب وإرشاد الضمير.  وفي تلك الغضون تجلت لي أمي في الحلم واقفة بالقرب مني ويسوع الطفل على ذراعيها فقلت لها: يا أمي أسعفيني ونوّريني . فقالت : " أما فهمت؟ هذا هو المرشد. هذا هو الذي ألهمتك به في الرؤيا والآن أقول لك: " هذا هو الأب المحترم يوسف طنوس الذي وضعت إكليل النجوم على وجهه فإياه أعطيك مرشداً ومدبرا لك وأنا أعينه وأجعله أن يهتم ويعتني بتدبير رهبنة الوردية". فقلت لها بدالة : يا أمي، كيف تختارينا نحن الفقراء المزدري بنا؟ لماذا لا تصنعين ذلك في أوروبا في بلاد الأغنياء؟

فتبسمت قائلة: " اذكري يا ابنتي أن من بين الشوك يخرج الورد. وأني في هذه البلاد فرحت وحزنت ومُجّدت.  فمنكم وبكم أظهر قوة يدي".  فانتعشتُ وتغلّبت على ذاتي وطلبتُ مرشدي المختار من أمي البتول وشرحت له حالتي ودعوتي وكشفت له أسرار قلبي. وشعرت حالا براحة قلب عظيمة ورحت أسأل أمي مريم كي تعينه وتسهل له ما لا بدَّ منه تتميم إرادة الله وإرادتها. ويوم عيد البشارة لاح لي بعد التناول نور بهي تجلّى خلاله سر العيد المشار إليه. ثم رأيت وردة من نور لامعة خميلة خرجت منها سيدة الوردية وهي واضعة يديها على هامتي شخصين عرفت أنهما كاهنان وكانا يكتنفان البتول أولهما الأب أنطون بللوني وثانيهما الأب يوسف طنوس مرشدي وكان السر الأول فوق هامته. وتراءى لي هذا . منظر الوردية مرة أخرى يوم كنت في الناصرة أزور مغارة التجسد فقد أبصرت جليّا وجه مرشدي مستضيئا خارّا على قدميّ أمي مريم البتول وكانت يدا أمي مبسوطتين إحداهما على هامة أختي حنة والأخرى على هامة من لا يمكنني أن أسميها. إنما رأيت على صدر مرشدي صليبا جميلا.

أسأل الرب أن يعينه على تعميم ما دعاه إليه. على أني بعدما أطعت مرشدي وكتبت له كل ما عاينت وسمعت وأُمرت به بشأن رهبنة الوردية المقدسة شعرت براحة ضمير وطمأنينة لا يمكنني وصفها.  وشكرت مراحمه تعالى وفضل أمي البتول لأنه هداني إلى مرشدي الحقيقي الذي أطلعني على بنات كثيرات في أورشليم يرغبن بإلحاح أن يفتح لهنّ دير رهبنة على اسم مريم أمي.  وهو محتار أي اسم يطلق عليها، على أنه ابتهج بتسميتها رهبنة الوردية وأعتقد بأن أمي الحنون تمنحه الوسائل وأن غبطة سيدنا البطريرك منصور يوافق على ذلك وقد التمستْ عدة بنات في أورشليم الإذن من غبطته مرارا في افتتاح الدير. و بما أن غبطته كان مطّلعا منذ أربع سنوات على حالتي قال إنه يتعذر عليه النهوض بأي نفقة كانت.  وأنه واثق بأنه تعالى ومريم أمي يسهلان له الوسائط لإنجاز ذلك. و بعد قليل أمرني مرشدي تكرارا أن اكتب شرح حالتي كيف كانت في دير الوردية زمانا طويلا وكيف رأيت ذاتي والقانون المدرج فيه.  وكيف شعرت في حلمي قبل أن يفتكر أحد في إنشاء دير الوردية ، فكتبت ذلك كله حرفيا وأثبت جميع ما رأيته وعرفته مما يحب أن يمارس في الدير كما سمعت من أمي مريم البتول حرفيا.  وقبل إرسال ذلك إلى مرشدي المومأ  إليه رأيت في الحلم أني بصحبة أمي المحبوبة وهي قابضة على يدي قبضا شديدا وانطلقت معها على سحاب الجو العالي فمررنا بنهر الأردن ومكثنا عدة سنين بين العرب البدو وهناك صار نجاح روحي عظيم في الديانة وخصوصا في أخوية النساء والبنات.  وبعد هذا أدركتني مشقات وشدائد وأفراح من دون أن أشعر بها.

لأن مريم أمي كانت اغلب الأوقات معي.  وقد رأيتها يوما موشحة بثوب رهبنة الوردية وهي تقبض على يدي اليمنى وتقول : اكتبي هذا لمرشدك وأرسليه مع القانون وقولي له أنه بعد ثلاثة أشهر يحدث تبديلك من رهبنة مار يوسف وسيكون ذلك واسطة سهلة لتغيري رهبنتك برهبنة الوردية.  ولما استيقظت كتبت ذلك كله متكلة على ربي وعلى أمي كل الاتكال وشعرت بأن قلبي مستعد لاحتمال ما ينبغي أن أحتمله من الخجل وأتجرعه من الحزن وقدمت ذاتي ضحية تامة لكل ما تريده مني العناية الإلهية.  وجعلت أكرر مرارا:  "فلتكن يا رب مشيئتك".  وكانت نفسي تشعر أحيانا بحزن شديد حتى الموت إذ كنت أفتكر في ما يلزمني أن أكابده من العذاب بانتقالي من رهبنتي إلى تأسيس رهبنة الوردية.  وكنت أخجل من الناس ومما يقال عني فكانت حيرتي عظيمة وهمي جزيلا لأن طبيعتي حساسة جدا وكانت محبة الذات حيّة فيّ.  ولذا كنت أجثو على قدمي أمي باكية كلما كانت تسمح لي الفرصة أكان ذلك ليلاً أم نهاراً.  مكررة الهتاف: أمي أمي دبريني وعلميني كيف وماذا يجب أن أصنع.  فكانت أمي تسارع إلى معونتي متجلّية بعدة أنوار ساطعة تتلألأ بهاءً وجمالاً فائق الوصف وبيدها الوردية تحفّ بها أنوار أسرارها.  وتلهمني أن الوردية هي سلاحي وقوتي وكنزي مع الله.  وعندما كانت تضعف قوى نفسي كنت أتلو الوردية وأكرر الاتكال على أمي الإلهية فأفوز بنعمة وقوة جديدة.

 

  إنشاء دير الوردية

 
   

حينئذ بالرجاء باشر مرشدي المشروع الخلاصي ساعياً في خير الأنفس وتعزيز عبادة الوردية المقدس ومنفعة القريب.  وفي أول آب 1880 أقبل الأب غرغوري خوري طائفة اللآتين وكرّس الدار التي كان استأجرها مرشدي لافتتاح دير الوردية.  وهذه الدار موقعها بين دير المخلص والبطريركية.  فشملت البهجة والسعادة بنات أورشليم إذ أقبلن وقبّلن تلك الأعتاب الشريفة وكن سبع بنات. حنّه وريجينا دانيال غطاس، عفيفة حنا متيا أبو صوان، رجينا داؤد الكارمي، جليلة توما عيسى وأمينة عيسى حبش، وكترينا صوان.  أما أنا فكنت في رهبنتي أنتظر أمري وسروري وراحة قلبي وقد ازدادت بهجتي يوم بشّرني مرشدي بافتتاح الدير.  واغتبطت بما أخذني عــن توّقد العبادة والمحبة

 والأمانة التي كنّ متزينات بها أولئك المبتدئات ومما سرّني جدا أن مرشدي أخبرني أنه لم ير داعيا إلى سنِّ قانون لأن أولئك المبتدئات كانت تشغل قلوبهن محبة يسوع ومريم الوردية ومحبة فائقة لبعضهن بعضا مع تواضع عميق واجتهاد متواصل لصنع الخير والسعي في خلاص أنفسهنَ والقريبl.

عرفت رئيستي المحلية بافتتاح دير الوردية ودخول أخواتي إليه فما كان منها إلا أن دفعت إليّ بعد أيام قلائل كتابا فيه تأمرني بالرحيل عن بيت لحم إلى بيروت وتقول إني إن تمنعت عن الذهاب اضطرتني إليه بواسطة الحكومة، وبما أن هذا الأمر لم يكن أمر طاعة قانونية بل دفعها إليه داعي نزوة وامتعاض، قصدتُ مواجهة النائب العام السيد بسكوال أبوديا لأن غبطة السيد البطريرك كان يومئذ متغيبا في رومية وأطلعته على الخبر، وبعد الفحص حكم بأني لست مضطرة إلى الخروج من الدير بل  يلزمني أن أطلب من الرئيسة العامة ورقة الطاعة ثم أفرغ جهده لدى الرئيسة المحلية كي تتمهّل عليّ ريثما أحصل على جواب الرئيسة العامة غير أن الرئيسة لم ترضى، فقضى النائب العام أولا أن أترك الدير الذي أنا فيه أعني دير بيت لحم في الدقيقة التي تريدها الرئيسة أن تبقيني في يافا فأكتب هناك إلى الرئيسة العامة وألتمس منها ورقة الطاعة حسب القانون وهكذا صار، على أني أدركت أن ما حدث لي وقتئذ كان ذريعة لأتمم إرادته تعالى، ومن ثم فبعد استشارة مرشدي كتبت عريضة إلى قداسة سيدنا البابا لأون الثالث عشر مستمدة من مراحمه أن يفكني من نذر الطاعة كي أبدل رهبنتي وأتمم بقية نذوري في رهبنة أخرى لأني مضطهدة لسبب عمل مبرور. ووجهت عريضتي هذه إلى سيدنا البطريرك منصور الذي كان مطلعا على حالتي منذ أربع سنوات.  فحصل لي غبطته على الحل من نذري، وبعودته إلى أورشليم دفع إليّ صك التفسيح  وأمرني أن أُبقي اسمي: الأخت ماري الفونسين الوردية، وأمكث في بيت أبي ريثما يتيسر لي الدخول في رهبنة الوردية على أنّ هذه الرهبنة عاكسها في أول نشأتها بعض رئيسات رهبنة مار يوسف واعترضن على مرشدي وعليّ في ديوان نيافة الكردينال محامي رهبنتهن مدعيات بأن مشروع رهبنة الوردية يثبّط أعمالهنّ الخيرية.  وبناء عليه حضر مفتش من رومية ووجدني في بيت أبي وفحص الأمر وفهمه فزالت تلك المعاكسات نوعا ما وكنت في تلك الأثناء منزوية في غرفة صغيرة ببيت أبى لا أغادرها إلا إلى الكنيسة وزيارة القيامة.  وكانت محبتي ليسوع ومريم أمي ملتهبة ضمن فؤادي كسعير متوقد.  وكثيرا ما كنت تتفقدني أمي مريم وتعزيني وتقويني.  وقد جعلت عزلتي هذه بمثابة فردوس وحوّلت فقري إلى سعادة وعذابي وتعبي إلى حلاوة وراحة غير أنه كان يشقّ عليّ جدّا أني خارجة من الدير فاقدة الطاعة محرومة ممارسة المحبة الأخوية لا يتيسر لي أن أمارس ذلك في خلوتي كما كنت أمارسه في الرهبنة.  أما غبطة سيدنا البطريرك منصور فكان يعزيني بقوله: قريبا إن شاء الله تتوشحين بثوب رهبنة الوردية وتتوجهين حالا إلى السلط لفتح المدارس فيضمحل حينئذ سبب امتعاض راهبات مار يوسف من هجرك إياهن.

قضيت على هذا الأسلوب ثلاث سنين في بيت أبي حتى زالت الموانع.  ثم دخلت بأمر صاحب الغبطة دير الوردية وقبلت تلك الأعتاب الشريفة.  وكان إذ ذاك وقت الرياضة السنوية فعكفت عليها. وبعد ثلاثة أشهر تشرّفت بلبس ثوب رهبنة الوردية بيد السيد بسكوال أبو ديا صباح عيد سيدة الوردية في 7 تشرين الأول 1883م.  يا له  يوم سعيدا به حصلت على راحة قلب حقيقية لأني تممت إرادة الهي وأكملت أوامر أمي التي أنعمت عليّ بنعم لا تعد ولا تحصى.  فكنت اشكرها دائما بحرارة قلبي وفي أول آذار من السنة ذاتها سميت الأم  روزالي رئيسة على ديرنا. وقد شاء الله أن يستخدمها في الرئاسة لكي تذيقني جرعة من كأس آلامه المقدسة. فكانت تضطهدني مجانا وتشبع نفسي اهانات شتى وتتهمني بأشياء لا اعرفها.  ذلك كله كان يحزنني جدّا. غير أن أمي الحبيبة كانت تشدد عزمي على الصبر وتفتقدني وتعزيني وتغمرني بنعمها وتعزياتها الحلوة.  وآخيرا بعدما أنهيت سنة الابتداء سمح غبطة سيدنا منصور براكو البطريرك الأورشليمي لتسع أخوات أن يبرزن النذور الرهبانية الثلاثة أي الفقر والعفة والطاعة في رهبنة الوردية وهذه أسماؤهن الأخت حنه دانييل، الأخت تريز حبش، الأخت ريجينا كارمي، الأخت فيلومين عبيس، الأخت اليصابات بطرس، الأخت ماري الفونسين. فكانت بهجتنا عظيمة جدا وكان استعدادنا لخدمة الله تعالى والقريب استعدادا تاما.

 

وبعد هذا فوّض إلينا غبطة سيدنا البطريرك منصور إنشاء مدارس في إرساليات أبرشيته.  ومضت الأخت اليصابات والأخت لويز إلى بئرزيت.  ومضت الأخت تريز والأخت فيلومين إلى الزبابدة. وتوجهت الأخت ماري الفونسين والأخت كاترين إلى يافا الجليل. يا له نصيبا سعيدا! فقد أخذنا مذ ذاك نجاهد في سبيل مجد الله بين الأقوام المتوحشين ونسعى في توسيع نطاق ملكوته ونشر عبادة الوردية بكل جهدنا.

 

ويعجز لساني عن وصف ما شملتنا أمنا البتول في تلك الأثناء من النعم والقوى فكانت عليها السلام ترافقنا دائما وتسندنا بيد معونتها وإسعافها.

فطوبي لعبيدك الحقيقيين يا مريم ! ويا لسعادتهم !

ففي يافا حصلت لنا شدائد قوية وأصابنا وجع في عيوننا زمانا طويلا غير أننا باسم يسوع ومريم نجحنا في نشر التعليم المسيحي والعبادة وكان الناس يلقبوننا باسم (( راهبات السلام لك يا مريم )) لأننا تعودنا تلاوة السلام الملائكي بسبحة الوردية في الطرق والبراري ، وإننا نشكر الله تعالى مراحمه الغزيرة لأننا في كل مدرسة فتحناها في رسالاتنا توفقنا بمعونة الله تعالى وبمساعدة أمنا الإلهية.

هذا ولما ثبّت القانون غبطة سيدنا البطريرك لودفيكس بيافي السامي الاحترام عام 1897 الزمني مرشد الرهبنة أن أضع يدي على المصلوب وأحلف مُصرّحة بأني كما رأيت وسمعت كتبت . فحلفتُ متكلة على المراحم الإلهية وسيدة الوردية.

وكتبت ما كتبت والسلام


 

المخطوط الثاني

 

مخطوط العمل في الإرساليات بخط يد الأم ماري الفونسين دانيل غطاس لم يحصل فيه تلف كالمخطوط السابق.

المخطوط الثاني- مخطوط رقم 2 – هو مخطوط منسوخ بخط يدها وبقي محفوظا في الرهبانية منذ ذلك دون أن يتعرض للإتلاف أو للحرق كسابقه والحمد لله. الأم الفونسين تشرح فيه سير العمل في الإرساليات الأولى التي افتتحت على يدها تقريبا وتصف المشاكل والصعوبات التي عاشتها أخواتنا الراهبات في عهد التأسيس مثل يافا الناصرة، بيت ساحور، السلط، بيت لحم ... الخ .

وصف الحياة الرسولية للراهبات الأوائل في الإرساليات

يافا الجليل سنة 1884

تابع ما كتبت في سنة 1878 ألف وثمان مائة وثمانية وسبعين. فشكر لكرمه تعالى على منحه إيانا هذه النعمة العظيمة، بأن نعلّم الفقراء في المرسليات، التعليم المسيحي المقدّس، توجهنا صحبة قدس مؤسسنا الجزيل الاحترام الخوري يوسف طنوس. فاستقبلنا حضرة الخوري اسعد لومبردو، بغاية الإكرام وفرح أهل البلد. فبعدما ارتحنا من تعب السفر، ابتدأنا بتعليم البنات. فكان عددهن نحو خمسة وثلاثين. فصرن يتقدمن في القراءة والكتابة والأشغال اليدوية، بكل نشاط وحب وعبادة، نحو أمّنا سيدة الوردية، حيث سلمناهنّ لقلبها الوالدي الحنون. إن المعلمة التي كانت قبلنا قد دخلت رهبنتنا حالا وسمّت الأخت كلير. أمّا محلّنا كان ضيقا وويحش بيتا متروكا للمدرسة، وقوضة (غرفة) صغيرة جدّا وضعنا تختين لنوم صغار. أما في النهار نضبُّ واحدا لكي نضع الميدة (طاولة السفرة) للأكل. " ففي فقرنا وضيق محلّنا كانت تعزيتنا وبسطُنا" . ونضحك ونقول إلى أبينا ومؤسسنا:" يا ما أحلى وأريح عيشة الفقر". 

أما أمنا الحنونة فكانت تعزيتنا بوفور عبادتها الحلوة، ونقول لحضرة أبونا:" لا تحزن علينا، نحن نقول أبانا الذي في السماوات فهو يرزقنا".

فلما توجهنا لزيارة النصرا (الناصرة) وقبّلنا تلك الأعتاب المشرّفة بتجسد ابن الله الحبيب حظينا برزق عجيب، حين زيارتنا دير راهبات القديسة كلارا. فإحدى المبتدئات حنّت علينا وأعطتنا أربع مائة فرنك لكي نشتري أثاثاً لديرنا. وحضرة الرئيسة جمعت الراهبات في الكنيسة ورتلّن " تعظم نفسي للرب " شكرا لله.

وحمدا لمريم البتول على أن راهبات الوردية فتحن ديرا في يافا الجليل. ثم الأم الرئيسة أعطت لحضرة الخوري لويز مونيه (مصاري) ألفين وخمسة وعشرين فرنكا لكي يعمرّ لنا بيتا في دارنا حتى تتوسع وتتحسن سكنتنا، فالشكر للعناية الإلهية أمنا سيدة الوردية. حينئذ المدرسة أخذت بنجاح فايق وقد ترتبت أخوية الوردية للبنات والنساء. وكنّا نتعجب من ضعفنا وجهلنا، وتجري كل هذه الأمور بسهولة.لكن كنّا نحس أمنا الوردية تعمل معنا. وحيث كانت عادتنا نتلو الوردية في الطرقات، جميع الناس كانوا ينادوننا راهبات " السلام لك يا مريم ". أما في النساء العبادة كانت باردة جدّا، وعدّة مرّات كنّا نلتزم أن نروح إلى البيوت نعزمهنّ لاستماع القداس يوم الأحد، لأن دقّ الجرس ما كان كافيا لتحركهنّ للحضور. ولما كنّا نحثهنّ على رسم إشارة الصليب حين دخولهنّ الكنيسة، فكنّ يعتذرن أن هذا شيء يوجع الأيدي كل مرّة رسم إشارة الصليب وقلة الاكتراث في أمور الديانة كانت هناك عادة. فلما تمّ عمار وتصليح محلنا، لزم تنظيف الأرض من الشيد، فلهذا لزم الأمر إرسال بعض البنات لنشل الماء من البير. والأخت كترين بالمناظرة عليهن. ثمّ أتت البنت " نصيرة " متأخرة عن وقت المدرسة، فمضت لتساعد تلك البنات بنشل الماء. فمن عجلتها سقطت في البير وكان عمرها إثنا عشرة سنة، من طائفة الروم. فهذا صيّرنا بضيقة عظيمة. وكان الخوري غائبا، فكان المعلّم سليم أيوب، فدقّ الجرس، وجمع الناس لكي يجد من يسبح، أما بنات المدرسة وأنا رحنا أمام ربنا في القربان نصلي، ثم مضينا إلى البير. وحيث كانت المسبحة الوردية على خسرتي (خاصرتي) والدم جرى من شقة قلبي. فمضيت إلى البير وصرخت على البير وقلت: " يا مريم أمنا اطلعيها وعينينا في هذه الضيقة ". ورميت به الوردية الكاملة أي خمسة عشر بيتا. فتهزوا (إستهزأوا) جميعا عليّ قائلين : " صار لها ساعة في البير وماتت ". فرجعت مع البنات للكنيسة أمام القربان وكنّا نصلي الوردية، فبعد برهة وإذا الأخت كترين أتت فرحة قائلة : " هلّموا هلّموا، نصيرة طلعت من البير والمسبحة في عنقها وممسوكة بيديها مع الحبل رموه لكي ينتشلوها به، وكانت مبلولة الثياب فقط، لكن بحال الصحة التامة، تمشي أمام الجميع" وتقول " أنا فرحانة جدا على الذي شفته في البير، رأيت المسبحة مضوية، دخلت في عنقي ومسكت في يدي، وصار كل البير مضوي مثل ضوء الشمع، ورغبتُ أن أبقى هناك دائما وسمعتُ صوتا يقول لي : امسكي في الحبل فمسكت به وها أني ههنا متأسفة على وقت وجودي في البير بضوء المسبحة الوردية". ثم رجع الخوري أسعد لمباردو وعرف هذه الأعجوبة بشهادة أهل البلد. قدّم ذبيحة القداس الكبير شكرا لعزته تعالى. ثم " نصيرة " وأمها واخوتها صاروا لآتين وصارت عبادة حارة لسيدة الوردية بعد هذه الأعجوبة.

حتى أن معلمة بنات البروتستنط، ارتدّت وأمها، والبعض من بنات مدرستها، حتى إنها اشتركت في أخوية الوردية، وباعت لنا الأرض التي تخصّها لكي تعيش من ثمنها، ولا تحتاج البروتستنط. ثم تسكّرت مدرستهم في يافا الجليل. شكرا دائما للعناية الإلهية وإلى أمنا سلطانة الوردية، أمين أمين. فبقيت بها سنتين وتوجهّت.

إلى مدرسة بيت ساحور سنة 1886

في أوّل تشرين ثاني توجهت لمدرسة بيت ساحور صحبة شقيقتي الأم حنّة.  وكنّا نعلّم البنات في مدرسة خراب جداً. أما كنّا ننام في بيت صغير في البستان لبينما يتصلّح محلنا. وكنّا نتعجب من فرح الأهالي واجتهاد البنات، وكرامة الخوري حضرة الأب سمعان اسحق كان يساعدنا جدّا لنجاح مدرستنا، وعدد البنات كان نحو 45. وحيث محلنا بابه على طريق التعامرة، كنّا نداوي بعض الأطفال. وبهذه الحجة نعمّد منهم المشرفين على الموت. حتى إن يوم عيد الميلاد المقدس، عمّدنا بنت وولد، الابنة ماتت بعد العماد بثلاث ساعات، والولد مات في اليوم الثاني من عماده. يا لها من تعزية عظيمة أن هذه الأطفال تُصلي لنجاح رهبنتنا في السماء. ثمّ كنّا نسعى لتصليح بيت النوم في قرب المدرسة، لأننا كنّا في تعب وخطر في قوضة(غرفة) البستان. فمرضت رفيقتي الأخت اليظبيت (اليزابيت) وكنت ساهرة عليها.

وإذا خبطة قوية على بابنا، فخفنا جدّا، فصرخت: " يا مريم احمينا، يا مار يوسف ومار أنطون نجونا. أما الأخت اليظبيت، فقد ثَقُلَ مرضها من الخوف وتعذّبنا جدا حيث ما كان ماء في البير، وكنّا نبتاع الماء من عين الرطاس (ارطاس). وحيث الأم روزالي كانت تُرسل لنا الخبز من دارنا من القدس، فكثيرا كان ينقصنا لسبب تأخير المكاري. وغالبا كان يصلنا شيء قليل فكنّا نتعجب ونسأل فالجواب كان كما يقولون : " جعنا وأكلنا في الطريق ". حينئذ كنّا نفرح في هذا العذاب الحلو حبّا بالله وبأمنا الحبيبة سلطانة الوردية. فوجودنا في هذه المرسالية عزيز علينا جدّا حيث هي بلدة الرعاة المبشرين بميلاد مخلصنا الحبيب. فشكرا له تعالى على هذه النعمة الجزيلة.

فبعد تصليح محلّنا للنوم، نقلنا صباحا وتركنا قوضة (غرفة) البستان الخطرة بفرح جزيل. ففي المساء ذاته، وصلتني ورقة الطاعة، لكي أسافر حالا وأذهب باكرا إلى السلط، لمدرسة كبيرة في بلد بدوان العرب. فصار فرحي عظيما، وقدّمت ذبيحة حياتي. والمضي لتلك البلاد الخطرة كان لديّ حلوا ومفرّحا جدّا. فصباحاً ودعّت هذه المرسلية وزرت مهد الخلاص طالبة النعمة لتتميم ما يجب عليّ فعله لمرضاته تعالى. فيا لها من ذبيحة ما تقدر عليها إلا قوة النعمة المقدسة.

مرسالية السلط في سنة 1887

فبعونه تعالى ونعمة أمنا سيدة الوردية، سافرنا في 23 شباط، صحبة حضرة الأم المحترمة روزالي والأخت روزه والأخت ماتيلد والأخت الحقيرة ماري الفونسين. وكان قايدنا المعلم يعقوب الصاع، ومكاريه أربعة لتحميل الأغراض. في الطريق، ابتدينا نتركز على الصليب،وهو هذا اللطف، أن الأم روزالي وقعت وزاغ كتفها وغشي عليها. فصرنا معذبات في حيرة عظيمة في تلك الأقفار. وما قدرنا نتابع سفرنا. فقرب المساء وفتشنا على محل ننام به تلك الليلة. والتجينا إلى شيخ عرب من سكان البراري الإسلام. فقبلنا بغاية الإكرام والمحبة، وفضّا (فرّغ) لنا بيت شعر واسع مملوء براغيث، فدخلنا به، ووضعنا فراشنا وأدخلنا الأم روزالي الموجوعة. وأحد العرب ردّ كتفها الزايغ من محله. يا له من عذاب مرّ، يا لها من ليلة متعبة جدّا، مقدمة منّا لله على يد أمنا مريم البتول. ثم ضوّا (أشعل) لنا حطبة غليظة وطويلة، وكانت تدّخن جدّا، وكادت تعمينا. فسكبت عيوننا الدموع وصحنا هذا مضرّ للنظر. فأجاب الخواجه الذي وكله الشيخ في حراستنا وقال:" إن هذا هو الضوء الذي يلزم يضيء كل الليل لكي ننجو من هجمات الوحوش". ثمّ أتى الشيخ وقال لنا: " الآن أرسل لكم المهرا التي تبقى عندكم كل هذه الليلة".

 فصرنا متحيرات كيف نقدر ننام مع هذا الحيوان! فبعد أتت إمرأة الشيخ فقال لها:" يا مهره، احرسي الراهبات، وابقي عندهنّ طول الليل". وكان لها قصبة (نوع من الغليون الطويل) طويلة تشرب بها وتزيد علينا الدخان. فمهرة كان اسم إمرأة الشيخ. ثمّ ذبحوا خروفا وأرادوا يعشونا. وحيث كان معنا زواده، فأعطيناهم، فعرفوا يأكلوا من زادنا وصاروا ينادون بعضهم بصوت عالٍ قائلين : " تعالوا وذوقوا أكل الملاكات (جمع ملاك) ضيوفنا". ثم جابوا لنا حليبا، أما الصحن فكان قرمية شجرة محفورة مثل حوض أسود وبها كان الحليب الذي قرّفنا. فبعد ساعتين من الزمان عصفت الرياح وهطلت الأمطار الغزيرة. فبيت الشعر كان يصفّي علينا الماء، وتغطينا بلحفنا منبّلة، وحتى ثيابنا غرقت. لكن لما اشتدّ بيت الشعر، عملوا قناية، فصارت الماء تجري حولنا كهدير البحر، واتبدل الشوب ببرد قارص. أما المهرة كانت تزيد سقم الحال بدخان قصبتها التي كانت تسلينا بها. يا لها من ليلة ما أطولها. ثم في الصباح تمّ ضوء الحطبة وصار جمرا، تدفينا عليه، ونشفنا عليه ثيابنا والمهرة غلت القهوة عليه والحليب.

 آخيرا بعد الفطور الذي كان في الساعة عشرة سافرنا. أمّا الشيخ ما أراد يقبل منّأ مكأفاة لا بل أعطانا فرسه الأصيلة إلى أمنا الموجوعة، وابنه رافقنا لحدّ السهل. وبعد شهرين أتى عندنا مع امرأته المهره، وحينئذ كفيناه (كافأناه) حسب عادة أهل تلك البلاد. فحين دخولنا مدينة السلط، استقبلنا حضرة الأب الخوري يوسف غاتّي وحضرة الخوري أسعد سوداح المحترم. مع أكابر البلد حتى كم واحد من أهل الحكومة. وصار لنا دخلة ما نستحقها وبقينا ضايفين عند حضرة الخوري نحو عشرة أيام، لحين ما رتبنا مسكننا الذي كان قبواً تحت الكنيسة، وبه أيضا كانت المدرسة للبنات. فابتدينا بتعليم البنات وتربية أخوية النساء. فعدد البنات كنّ 146 مائة وستة وأربعين، وعدد النساء المشتركات في الأخوية 86 ستة وثمانين. أما الجهل ونقص الديانة كان في تلك البلاد والأيام كان محزنا جدّا، وعدم تهذيب أهل طائفتنا، الذين خصوصا كانوا يسكنون البراري في بيوت الشعر، ويأتون إلى البلد مرّة في السنة في عيد الفصح، والخوري كان يزورهم مرتين أو ثلاثة في كل سنة، ويجهلون أمور الديانة حتى إنه في أول فصح حضرنا هناك، رأينا النساء والبنات يتناولن القربان الأقدس بدون استعداد، لا اعتراف ولا صيام من نصف الليل ولا صلاة، وشفنا كثيرات يأتين من الباب إلى المايدة المقدسة حيث كان الخوري يقرّب ويتناولن السر الأقدس بهجمة لا تقدّر. يا أسفاه على هذه المناولة، فحملنا ضميرنا على أن نترجا الخوري على أن يوقف المناولة إن أمكن، حيث أن البعض كنّ يتناولن أكثر من مرّة في وقت واحد. وبعد كنّا نسأل النساء والبنات، متى اعترفن؟ فكنّ يجيبونا، اعتراف ما نعرف، نأتي ونتقرّب مرّة في السنة، وصيام من نصف الليل؟ ما نعرف. أفطرنا شيء صيامي خبز وسماق، وكنّ يؤشرن على غيرهنّ اللواتي أفطرن حليب وجبن ثم تناولن حالا. يا أسفاه على هذا الجهل. حينئذ ابتدينا نعلمهنّ الواحدة بعد الأخرى أخصّ أسرار الديانة، وكيفية قبول الأسرار، وما كان يدخل في تلك العقول أن الاعتراف لله عن يد الكاهن المتصرف يغفر الخطايا.وبعض أوقات قبل ما ندخل الكنيسة، البعض من النساء كن يشدّن في ثيابنا قائلات:" عرّفونا أنتن، للراهبة نقرّ بكل خطايانا، أما للخوري ما نقرّ. إن الراهبة لبسها أسود فيلزم أن تعرّف ". أوقات كنّا قاعدات في الساحة قدّام باب الكنيسة يشربن دخان بقصبة طويلة، والبعض منهنّ تقول لراهبة لما تدخل الكنيسة:" يا مسير لك أعترف بكلّ شيء عملت، إني سرقت لكي أطعم القواريط (الأيتام) وقتلت الناس بيدي ولساني، وأبغض سلفتي، ولا أسمح لعدوّتي أبدا إلى آخره..." وما كنّا نقدر نسكتهنّ عن هذا الإقرار في العالي، أما للخوري غير ممكن أن نعترف.

ولما كنا نبدأ فرض السيّدة بعد القداس، كنّ يجمعن بعضهنّ من الحارة صارخات: " هلمّ قد ابتدأ في قداس الراهبة ونفهم به عربي". فبعد سماعنا كل هذه الجهالات، عزمتهنّ لمحلّنا كل يوم أحد بعد القداس للفطور. وبعده نعلّم التعليم المسيحي وكيفية قبول الأسرار، وخلوص العبادة إلى أمنا مريم البتول سلطانة الوردية، وبعنايتها أتت لنا أن نُدخل الديانة المسيحية في تلك العقول البسيطة جدّا.   

لكن كان لهنّ عوايد محزنة تفتت الأكباد وهي، أن التي تزعل من أهل بيتها تأخذ مرسه (حبلة) وتروح تفتش على شجرة بعيدة وتشنق حالها تموت... إنه في يوم 11 أيار كنّا كلمنا البنات عن إفادة تلاوة المسبحة الوردية. وحرضناهنّ أن عوض ما يلعبوا بروحهنّ في محل التنزه ويصلوا المسبحة أحسن

فبعد المدرسة، البعض توجهنّ بعيدا وكنّ يقلن فيما بينهنّ نروح بعيدا ونعلّي صوتنا في الصلاة حتى يُسمع في السماء. فوصلن عند شجرة ووجدن معلّق بها إمراة مشنوقة ومعلّقة بمرسه. فحالا، البعض طلعوا على تلك الشجرة وفكّوها، وغيرهنّ مسكن برجليها ونزّلوها. فوجدن أن بها روح تتحرك، فأخبرن الخوري. حالا توجه مع غير رجال وجابوها لمحلنا ورويدا رويدا رجعت للحياة. فعرفنها جميعاً أنها من نساء طائفتنا، كانت زعلانة مع حماتها وفضّلت الموت على الصبر. وخبرونا عن كثيرات قد متن على هذه الصورة. وفي حارة الكراد، نساء كثيرات كنّ يرمين ذاتهنّ في البيار (جمع بئر) ويمتن. فكم وكم من العوائد الممقوتة وجدنا بشغلات النساء. لما يمرض أحدكن يجبن ترابا من مغارة الفقير أي درويش المسلمين ويبخروا المريض ويذوبوا التراب ويسقوه هذا الدواء. معتقدين بشفا(بشفائه). ويلتجين إلى السحرا ويلبسوا أوراق السحر، ويلتجوا إلى الشيطان بفتح المندل لوجود الأشياء المفقودة، وكلّ هذه الأشياء وغيرها كانت شغلات نساء أخويتنا ويعملن هذه وغيرها كأنها معجزات. آه! كم لزم من التعب لكي نقدر نستأصل هذه من نساء طائفتنا.

 

أما جوازهنّ كان، أن يشتروا البنت ويفصلوها كم تسوا من الدراهم أو حيوان، أَمِنْ فرس أو ثور أو حمار... وفي حفلة العرس كانوا يزفوا هذا الحيوان مزِّيناته على رأسه وظهره هو بكثرة البرابيش مغنين هذا ثمنها وغير عوايد نسكت عنها لأجل الاختصار. 

ثم بعد رجوعي من السلط بعد سنتين، توجهت إلى نابلس. هذه المدرسة فُتحت عن يد مير مريم، وحضرة الأب المحترم الخوري أنطون رزق. هناك عدد البنات كان قليلا، وديانة برده (باردة) جدّا. لكن بعد ما صار أخوية أمنا مريم البتول، صار نشاط أكثر في الديانة والعبادة. ولما زار سيادة بطركنا " لودوفيكوس بيافي " كان نجاح غير اعتيادي في المدرسة وعدد البنات كان نحو 45 منهنّ 19 لآتين والباقي روم ومسلمات ويهود. فغبطته بعد الفحص الذي سرّه جدّا، أخذ أسماء البنات جميعا، وطلب أيضا عدد بنات الأخوية، وأنعم عليهنّ بأيقونات فضّة كبار، فلبسن الإيقونات متشكرات فضل غبطته.

فبقيت هناك سنتين فقط، وأخذت مرضا شديدا سخونة صفراويّة ومكرين (ميغرين) .ومن جرّاء ذلك، بقيت طريحة الفراش في ديرنا في القدس سنة كاملة. وفي هذه المدّة، تجرّعتُ كأس العذاب المرّ، من قبل الأم روزالي التي كانت تبغضني جدّا، مع البعض من خواتي المحبوبات. فكنت أشكره تعالى وأكرّر: " كلّ هذا لأجل إكرامك يا مريم " فبعد شفاي ذهبت إلى الزبابدة. فهذه المدرسة فُتحت عن يد مير روجينا كارمي، في وقت حضرة الخوري فرنسيس الكرت، الذي كتب حوادث كثيرة عن تقدّم ونجاح حرارة الديانة والعبادة، التي صارت بوجود راهباتنا بمعونة أمنا مريم البتول سيدة الوردية. فاستقمت سنتين ومن هناك مضيت إلى النصرة (الناصرة) وهناك جرت لنا الفاجعة المرّة والشديدة المرارات انتقال أبينا ومؤسسنا الأب المحترم الخوري يوسف طنوس وتركنا جريحات الفؤاد بحزن مميت على فقده. يا لها من خسارة عظيمة، فقد حياته الثمينة، وتركنا في هذا الوقت العسر، والكلي العازة لهذا الأب الحنون والمؤسس الغيور، فصبرنا وتجرعّنا كأس هذا الصبر المر خاضعات لمشيئته تعالى القدوسة قائلات: " فلتكن مشيئتك يا رب آمين " فقبل وفاته بساعة، كلّمني وحدي مدّة ساعة، وقال لي : " خذي بركتي الأخيرة، وأسفا عليك إن كنت تبقي طويلا في هذه الحياة بعد موتي، لأنهنّ يعذبوك جدّاً يا مسكينة بينهنّ ". فجاوبته " لا بأس من عذابي، أنا ذبيحة الوردية، أرغب فقط أن تكون مرتاح في الديار السماوية، وراحتك هي راحتي، إنّ أمنا الحبيبة التي خدمتها في الحياة، ستأتي وتساعدك في هذا الوقت." جاوبني : " ما أحلى الموت، ما هو صعب، فقط مريم طوّلت، متى تجيء يا تُرى ؟ " فباركني والتفتَ نحو صورة مريم العذراء وشهق وسلّم روحه بيد الله. وصارت عيونه تلمع كضوء الشمس. وقبل وفاته قال لي: " إن أختك ريجينا تحسب واحدة منكم كما وعدتها ؟" وقبل موته بعشرين يوما، أوصاني بافتتاح مقوى (مأوى) لليتيمات في بيت لحم، ومشغل للفقيرات للبنات الكبار حتى يكسبن معيشتهنّ بصطرة (بسترة). وقال لي : " إن ربنا شفاني، أوّل شغل أعمله هو هذا. وإلا اعملي مجهودك بهذا، ثم أخبرني أن حضرة الخوري فرنسيس فرّا يرغب جدّاً جدّاً وجودنا هناك. وهو وعد أن يساعدنا ويصير خير لخلاص الأنفس إن أراد الله تعالى ". ثم رجعت لمحل إقامتي في قرية الزبابدة . وبعد ثمانية أشهر، قد توجهت إلى ديرنا في القدس، لأجل أشغال ضرورية. فبعد أن قضيتها، استعديت للرجوع إلى الزبابدة. وقبل توجهي بساعتين، وإذا بتحرير من غبطته سيدنا لودوفيكوس بيافي يطلِِِِبني للمواجهة. فعند ذلك قال لي أن أذهب حالا إلى بيت لحم وأفتح محل باسم مشغل للفقيرات حالا وسرّاً، لأن مضم (مدام) بيكار، طلبتْ منه أن يرسلنا على نفقتها. وعطتنا خمس مائة فرنك كمبدا، ووعدتْ بنفقة إن أراد يختم لها على تحرير، توجهه لدير الشرطريز في فرنسا. فغبطته وعد بذلك. فتوجهت مع الأخت جوزفين أبو صوّان، وكان ذلك في شهر حزيران سنة 1893 يوم عيد قلب يسوع الأقدس. بالاتكال عليه وعلى أمنا الحبيبة سلطانة الوردية، فواجهنا حضرة الأب الخوري فرنسيس فرّا، فقابلنا بخلوص البشاشة ووعَدَنا بالمساعدة على قدر الإمكان والسعي لوجود محلّ يلائم قصدنا. فاستأجرنا بيت واحد في دار الخواجة مبارك دعيق مؤقتا. فأتين عنده عدّة بنات ونعلمهنّ القراءة والكتابة والتطريز وتخريس المسابح. وتعزيتنا كانت عظيمة بفقرنا الزائد الحد. " وكنّا نقدّم احتمال هذا الفقر تعويضا لما ينقص ويخالف بنذر الفقر في رهبنتنا". ونفرح مسرورات بالاشتراك بفقر العيلة المقدسة، في البلد ذاتها التي بها احتملت عذاب الفقر الكليّ. يا لسعادتنا بنول هذه النعمة من كرم الطفل يسوع. ثم انتقلنا لدار الخواجة ميكيل. وهناك صار وساع أكثر لمشغلنا. فكانت بقرب الدار جارة فقيدة النظر، هي قرينة حنا عيسى القطان. حتى إن الحكيم " باكر " قطع الأمل من شفاها. فعند زيارتها طلبنا قدح ماء، ووضعنا به المسبحة الوردية، وقترنا (قطّرنا) عيونها وصلينا جميعا مع أهل بيتها (خمسة عشر السلام لك يا مريم) وتركنا لها الاستعمال. في الغد طلبوا منّا ماء المسبحة الوردية ثانيا، وقالوا إنها صارت أحسن. وبعد كم يوم شُفيت وقدرتْ تأتي للكنيسة. والآن تخيط وتطرّز. وكل هذه الإنعام بشفاعة أمنّا مريم البتول. ثم انتقلنا إلى دار عبد الله دعيق. فهناك توسعنا اكثر، وصار عدد البنات نحو خمسين والنسوان في الأخوية 39 التي ترتبت بسماح الأب الخوري فرنسيس فرّا. وكنّا نجمع أشغال من عند التجّار، خيطا (خياطة) وتخريس مسابح وتطريز بشاكير (محارم) وكنا نعطيهنّ الأجرة كل جمعة. وهذه الإفادة الزمانية صارت واسطة لممارسة العبادة وتنويرهنّ في الديانة. ورهبان مار يوحنا عبد الله الذين في سبيطار (مستشفى) الطنطور، اعتنوا في تسليك مشغلنا، ونفعونا جدّاً بشفقة عظيمة. ويرسلوا لنا ما يلزم للخياطة لهم وإلى السبيطار. وهذا كان يشغل بنات كثيرات العدد. فحظنا كان سعيدا أن نُعين خوات المسيح. فصار عندنا داخلية، الأولى لوشيا ابنة يوسف غطّاس، وثانية وديعة ابنة الياس دانييل، وثالثة أجني ابنة رفايل غطاس ثم غيرهنّ وغيرهنّ... ثم انتقلنا لدار يوسف لولص بقرب كنيسة قلب يسوع في مقوى (مأوى) الأيتام. فالذي أحوجنا بتغيير هذا المحلّ، هو وجع العيون الذي أصابني وأصاب رفيقتي الأخت دومنيك. فهذا المحلّ صار موافق لغاية مشغلنا. وكثر عدد البنات والنساء،  وزادت العبادة نجاحاً. فصباحا بعد القداس، كان الدرس وتسميع المثايل (الدروس) لمن ترغب أن تتعلم والشغل اليدوي للحصول على المعاش. وبعد الظهر الشغل أيضا. وفي الوقت ذاته تتلى المسبحة الوردية الكاملة، كل واحدة تقول بيت والباقي يردنّ، بعد هذا تصير قراءة روحية وتفسير على التعليم المسيحي، وكيفية ممارسة الديانة، وخلوص العبادة الحارّة لسيدتنا مريم البتول. فيوما ما تشرفنا بزيارة الأب المحترم الخوري فرنسيس فرّا، وانسرّ جدّاً من هذه الممارسة، وجمعية البنات والنساء، وصار لنا شغل لمخزن الفرنسيسكان من القدس، أي تخريس مسابح عن يد الخواجة منصور كردي. وهذا نفع البنات أكثر وأكثر. أما مضام (مدام) بيكار كتبت لنا الاستعذار بأنها  ما تقدر تدفع لنا شيئا لأن سيدنا " بيافي " ما أراد أن يختم تحريرها لدير الشرطريز (Les Chartreuses) قائلا : " انه ما يختم لأنه بهذا كأنه يشحد من الفرنساوية، وأن كفّه مليان ذهب فيعطينا ". مع ذلك ما شُفنا شيء من هذا الكف المذهّب.

ثم يوما ما كنت مريضة، وإذا على غفلة شرّفنا سيادة القنصل الفرنساوي مسيو لضو (ليدو) ونظر المشغل مملوء من البنات والنساء، فانسرّ جدّاً باجتهادهنّ، وقال لي: " انه أتى لكي يعرف كيف صار وجودنا في بيت لحم. حيث صار سبب غيرة لغير راهبات. ومن يعطينا معاش؟" فشرحت له الكيفية، وحيث مضام (مدام) بيكار ما تقدر تعطينا معاش، فكري أن أسكّر المحلّ. فأجابني: " كلا ثمّ كلا، لا تسكّري نقص اتكال على الله تعالى وأن سيدته (زوجته) تعتزّ بنا، وطَلَبت لنا من الحكومة الفرنساوية معاش" فحالا جاوبت حضرته بالإيجاب. وزادت على ما كانت تعطينا في القدس، خمس مائة فرنك بزيادة. كان مُرتب لرهبنتنا ألف وخمس فرنك خارج عنك. فترتب سنويا ألفين فرنك لسبب ديرنا في بيت لحم. فبلغني ذلك، فمضيت لعنده ممنونة ومتشكّرة أفضاله العلوية. وهذا في سنة 1895 ألف وثمان مائة وخمسة وتسعين. لكن بعد هذا ربنا رزقنا أشغال مفيدة وحسنات، التي كانت تكفي لمعاشنا الاعتيادي حتى كفو لدفع أجار الدار. فما أخذنا ولا مرّة، الخمس مائة فرنك، لأن ما صار لنا عازة. فحبينا أن هذا المبلغ يبقى في ديرنا. وهذا كان بمعرفة الأم الرئيسة حنة، لأن كل سنة كان يزيد الداخل على الخارج شويّة، وربنا مالنا (ودبرنا حالنا) من كرمه، بالخبز اليومي فله الشكر الدايم على اعتنائه في خلايقه جميعا. أما العبادة لمريم سلطانة الوردية، صارت تزداد يوما فيوما. ففي ذات يوم كنّا جميعا في الحضير (الملعب) ننقي قمح بحد البير. فبدينا نصلي ورديتنا حسب العادة، وبعد أسرار الفرح، صار خبط شديد في البير حتى بالكاد نقدر نسمع بعضنا لتتميم تلاوة الوردية . فارتسمنا باسم الصليب واسم مريم العذراء، وفتحنا البير، وإذا حيّة كبيرة في الماء تحرّك وتخبط أوقات تنقلب رفيعة طويلة، وغير أوقات رفيعة، وغير مرات يكون بها أطرف شوك ضخم. فأتو (فأتى) الناس والشغيلة الذين حولنا واستعملوا وسايط لإخراجها، فما أحد قدر على ذلك. فأتوا راهبات المحبة، وأيضا كاهن من السالزيان وصلّى وكبّ ماء مقدس في البير، وسكت الخبيط وسكّرنا البير.                

وفي الغد فتحنا البير، فصار حسب العادة صافي رايق. فبالاتكال على الله تعالى شربنا جميعا لحدِّ آخر الصيف. ولما خلصت الماء غسلنا البير وهو عامر وما به ولا خزق أبدا. فاستنتجنا أن الشيطان انجكر من كثرة تلاوة المسبحة الوردية، صار يخبط في البير. أما هذه التجربة ما أخافت أحداً بل زادت العبادة لمريم أمنّا. وكان بقرب دارنا الخواجة جبرائيل الدبدوب مريض وعلى آخر أنفاسه، وكان الأب الخوري ينازعه، فاستدعونا أهله لكي نحضر موته ونصلي لأجله. فوجدناه مبلول بعرق الموت، ولفق وسلّم روحه. فصاحوا أهله وولولو، وأخته سارة قدّت (شقّت) ثوبها حسب عادتهم وقت موت أقربائهم. فقلت للخوري:" مهلا، ربما أنه ليس مايت" . وأخذنا كباية ماء وأعطيناه وصار يبلع من ماء المسبحة الوردية التي وضعتها في كباية الماء. وطلبنا شيئا ما لنجرّب إن كان يقدر يتقوّت، فأتوا بمربا سفرجل وجربنا ، فصار يأكل ، رويدا رويدا رجع للحياة بشفاعة سلطانة الوردية، التي وضعت مسبحتها في قدح الماء. فجميع الحاضرين شكروا مريم البتول أمّ الله، وزادوا في الحرارة بعبادة الوردية. لكن عدم وجود دار موافقة لمشغلنا كان يهمنا جدّاً، وهذا من سبب فقر الحال وعدم القدرة لعمار الدار. فكنّ نتعذب جدّاً، وحضرة الخوري فرنسيس كان يشور علينا أن نروح بعض محلات لكي نستأجر دار، فكنت أدور أنا وأختي الأم حنّة، ويرسلنا من محلّ إلى غيره كل سنة، لمدة خمسة عشر سنة حتى كلّينا وتعذبنا من التفتيش. فشكرا لأمنا الحبيبة التي تنازلت وأشركتنا بعذابها هذا. وعدم وجودها في هذه البلد المقدسة سوّى مغارة فقيرة جدا لسكناها. يا ما أحلا عذاب عيشة الفقر التي لدينا حلوة بالاشتراك بفقر العيلة المقدسة.         

عرفنا سابقا من خلال قراءتنا للصفحات الأولى لنشأة الرهبانية أن الأم البتول اختارت كاهنا لمساعدة ومساندة الأم ماري الفونسين في تأسيس رهبانية الوردية. فمن هو هذا الأب المُختار؟

 

  الأب يوسف طنوس " وضعت إكليل النجوم على رأسه "

 

في إحدى الرؤى شاهدت الأم الفونسين الأب يوسف طنوس وعلى رأسه إكليل مرصع بالنجوم وسمعت هاتفا داخليا يقول إنه المرشد الذي اختارته السماء.

وبينما كانت الراهبة مضطربة وحائرة تراءت لها العذراء ثانية وقالت لها :" أما فهمت بعد؟ هوذا المرشد الذي أوحيت إليك به في الرؤيا. إنه الأب يوسف طنوس الذي وضعت إكليل النجوم على رأسه. وأعطيك إياه مرشدا ومدبرا لك. وأنا أعينه وأجعله يهتم ويعتني برهبانية الوردية ".

الأب يوسف طنوس من الإكليروس البطريركي اللاتيني الأورشليمي، ولد في الناصرة عام 1838 وكان والده زعيم طائفة اللآتين هناك وقد سيم كاهنا للرب عام 1863. وفي عام 1866 شغل منصب سكرتير القصادة الرسولية في بيروت ثم منصب أمين سر البطريركية اللاتينية في القدس. وفي المجمع الفاتيكاني الأول عام 1869 اختاره غبطته مستشارا لاهوتيا له. ولم تحل هذه المناصب الكثيرة بينه وبين العمل المباشر في ميدان الرسالة، لا سيما بين صفوف الشباب ووجّه عناية خاصة إلى أخوية " بنات مريم " وكان مقرها لا يزال في مدرسة راهبات القديس يوسف.

فكرة تأسيس رهبانية عربية لم يكن بالأمر الجديد بين فتيات الأخويات كما اشرنا. وقد أخذ الأب يوسف طنوس يعمل الفكر في أمور كثيرة تخصُّ الرهبانية المقترح تأسيسها وتخص اسمها وروحانيتها وقوانينها وأهدافها ومقرها. وفي غضون ذلك أقبلت إليه الأم ماري الفونسين رسولة من قبل العذراء، ووجد في حديثها ضالته المنشودة، فاستولى عليه آنذاك ذهول شديد. فسأل الراهبة بعض الأسئلة كي يطمئن إلى رجاحة عقلها ورصانتها. وكان يعرف الشيء الكثير عن فضائلها وغيرتها .

واقتنع أخيرا بصدقها وصحة الرؤى ومصدرها الإلهي. وطلب منها أن تصوغ مسودة قانون للجمعية بناء على ما شاهدت وسمعت من العذراء ثم أمرها بتدوين رواية الظهورات وما أوحت به العذراء بشأن الرهبانية الجديدة، ولا سيما ما أدلت به خلال ظهورها في الثامن من تشرين الثاني 1879.

لقد تدخلت العذراء سيدة الوردية، وبطريقة لم نعهدها في تأسيس الرهبانيات. وبتدخلها الفريد تؤكد الكرامة الفريدة التي خصّت بها فتيات بلادنا والضرورة الملحة لتأسيس رهبانية الوردية الأورشليمية. إنها في مجدها السماوي، اختارت للشروع في التأسيس الأخت ماري الفونسين من القدس الشريف " مدينة سر الفداء " والأب يوسف طنوس من الناصرة "مدينة سرّ التجسد". هذه هي القاعدة الثلاثية لنشأة الوردية. إننا نشتمّ منها عبير الأرض المقدسة بأسرار ديانتنا العظمى: التجسد والفداء والمجد الذي تجلّى في سيدنا يسوع المسيح وأمنا مريم البتول والمزمع أن يتجلّى فينا.

اعتادت البطريركية اللاتينية ورهبانية الوردية أن تعتبر الأب يوسف طنوس مؤسسا للرهبانية. وفي سنة 1927 عندما انتشر سرّ الأم ماري الفونسين، أخذت الرهبانية تعتبر هذه الراهبة المتواضعة، مؤسسة مع المؤسس، وأخذت تضمّ صورتها إلى صورته. وأخذ بعض الناس يركزون على دور المؤسس، وغيرهم على دور المؤسِّسة. إلا أننا استنادا إلى الرؤى التي حظيت بها الأم ماري الفونسين ونحن نؤمن بها وإلى قداسة حياتها وتواضعها نقول:

بأن الأم البتول، سلطانة الوردية، هي المؤسسة الأولى للرهبانية، وقد هيأت الأم ماري الفونسين لهذه المهمة، ووجهتها إلى الأب يوسف طنوس ليكون لها مرشدا، ويقوم وإياها بالتأسيس.

لقد كانت الأم ماري الفونسين راهبة تقية متواضعة في رهبانية القديس يوسف للظهور. وكانت سعيدة في حياتها الرهبانية، تعيش عطاء ذاتها لله حبا وطوعا دون حدود. ولم يخطر على بالها قط أن تترك رهبانيتها لتؤسس رهبانية جديدة لولا إرادة العذراء الساطعة التي كشفتها لها في الرؤى. فكانت صعوبتها الأولى والكبرى أن تترك رهبانيتها التي أحبتها وأخلصت لها بالإضافة إلى ذلك لم تكن تمتلك أية مقومات مادية أو اجتماعية أو كنسية لإنشاء رهبانية جديدة. ولكنها كانت تمتلك " العمود الفقري " لكل رهبانية جديدة، وأعني به الحياة الرهبانية الأصيلة في أبهى معانيها الروحية والكنسية وكان لا بدّ من أن تتوافر حياة رهبانية مثالية لتأسيس الرهبانية وانطلاقتها، فحظيت الأم ماري الفونسين باختيار الأم البتول لها. وأرادت الأم البتول أن ينمو فيها روح التواضع وقداسة الحياة الرهبانية، فاختارت لها أن تعيش السر العاشر، سرّ موت يسوع والفداء حتى في تأسيس الرهبانية، وأن يبقى سرها مكتوما حتى مماتها، إلا عن البطريرك منصور براكو ومرشدها الأب يوسف طنوس. " بنت الملك جمالها في داخلها"، والسماء ترفع المتواضعين، وكل ذلك يزيدنا اقتناعا بأن المؤسس الأول والرئيسي هي الأم البتول.

كذلك لم يكن هنالك غنى عن كاهن للشروع في التأسيس، وبخاصة نظرا لمعطيات البيئة الكنسية والاجتماعية التي كانت مسيطرة آنذاك في بلادنا.

إن تأسيس رهبانية لا يمكن أن يتم إلا ببركة السلطة الكنسية وتشجيعها. ولا يدور في خلد أحد أن الأم البتول في تأسيس الرهبانية، تخرج عن السلطة الكنسية، وعما هو مطلوب ومقبول كنسيا، ولذلك نراها تختار أيضا الأب يوسف طنوس، أحد كهنة البطريركية اللاتينية للشروع في التأسيس مع بقاء الأخت ماري الفونسين مجهولة لا يبرز دورها للعيان.

وقد كان الأب يوسف طنوس مطّلعا على حقيقة تدخل الأم البتول لتأسيس الرهبانية، من خلال الأم ماري الفونسين التي ائتمنته سرها.

وفي وصيته التي حررها في الأول من شهر أيلول سنة 1886 أي قبل وفاته بست سنوات وبعد النذور الأولى للفوج الأول من الراهبات، قال:" أي جميل وشكر أن أقدّم لك يا مريم أمي الحنونة سيدة الوردية المقدسة، على النعم والخيرات والمواهب جميعها التي حصلت عليها بشفاعتك، حسبما اختبرت بالامتحان مدة حياتي كلها، لا سيما في إنشائك رهبانية الوردية المقدسة".

وفي وصيته الأخيرة التي كتبها في أثناء مرضه الأخير قال موجها كلامه إلى الراهبات:" ما وجدنا سببا لتعزيتنا إلا أن نقدّم ذاتنا وحياتنا ضحية لتكون أساسا للرهبانية مستودعين إياكن لسيدة الوردية وللمراحم الإلهية، وهي التي استخدمتنا كآلة لتأسيس هذه الرهبانية "، فالأب يوسف طنوس كان يدرك تماما بأن المؤسس الأول هي الأم البتول سلطانة الوردية، وإنها اختارته كما اختارت الأم ماري الفونسين للشروع في هذا التأسيس. وقد كان يوّقع رسائله العديدة لبناته الراهبات: " أبوك الخوري يوسف " ورسائله الرسمية " " رئيس الرهبانية " .