في الآونة الأخيرة تداولت وسائل الإعلام خبر تحويل كنيسة
آيا صوفيا إلى مسجد. وقد اختلفت ردّات الفعل تجاه هذا
الحدث: فمنها من عبّر عن حزنه وألمه وأسفه الشديد، ومنها
من حذّر من مشاعر الغضب التي ستتولّد، ومنها من استنكر
الحدث واعتبره استفزازاً لمشاعر المسيحيّين... وغيرها
الكثير من ردّات الفعل السياسيّة والدوليّة والدينيّة. وقد
أثارت في داخلي هذه الضجّة الكبيرة التي أحاطت بالموضوع
الكثير من الأفكار والتساؤلات خصوصاً مع ما تحمله آيا
صوفيا من إرثٍ تاريخيّ.
فهذه الكنيسة التي شُيّدت في القرن السادس الميلادي وشهدت
تتويج الأباطرة البيزنطيّين قد شهدت أيضاً عام 1054م. حدثاً
مزّق المسيحيّة من الداخل وهو إعلان الانشقاق الكبير بين
الكنيسة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة ليكون بمثابة الفاتحة
لكلّ ما سيأتي لاحقاً، والذي لا نزال إلى اليوم نعاني من
نتائجه بل وندفع ثمنها!
والذي زاد من الانشقاق بين
الكنيستين ومن التمزّق في جسد المسيح هو قيام الحملة
الصليبيّة الرابعة بنهب مدينة القسطنطينيّة ونهب كنيسة آيا
صوفيا وتدنيسها من قبل الجنود الصليبيّين! بل ورفض روما
لإستغاثة القسطنطينيّة حين جاءها محمد الفاتح غازياً
محوّلاً آيا صوفيا لمسجد في أول جمعة بعد الفتح!
ليست آيا صوفيا وحدها التي خسرت
هويّتها بل أوروبا أيضاً تخسر هويّتها ومسيحيّتها وتحوّل
كنائسها إلى مطاعم وحدائق وبارات ومواقف للسيارات وذلك حتى
مع وجود بعض المصلّين فيها! أوروبا العلمانيّة التي تمنع
تدريس التربيّة المسيحيّة وتمنع وجود أي شيء يدلّ عليها
كصليب أو تمثال للسيّد المسيح أو للسيدة العذراء أو لأحد
القدّيسين في مدارسها الحكوميّة بل وتمنع حتى أيّ ذكرٍ
لإسم الله فيها!
منذ قرونٍ وقرون وآيا صوفيا لا
يدخلها المسيحيّون ليُصلّوا، وهذا هو حال عددٍ من كنائسنا.
فكم من المسيحيّين اليوم لا يدخلون الكنيسة إلا يوم عمادهم
ويوم زفافهم ويوم دفنتهم! وكم من الأشخاص الذين قد نعرف
بعضهم، تركوا المسيح ليتبعوا ديانات أخرى أو ليصبحوا
ملحدين أو لادينيّين تاركين مقاعدهم في الكنيسة فارغة! هذا
بالإضافة إلى خسارة الكنيسة لثقة بعضٍ من أبنائها بسبب
الأخطاء الكثيرة التي ارتُكبت داخلها!
آيا صوفيا ليست الوحيدة
المُهدّدة؛ فاليوم في مدينة فيرزون في فرنسا توجد كنيسة
معروضة للبيع وقد تتحوّل إلى مسجد، لكنّها وبعكس آيا صوفيا
لا يزال يرتادها بعض المصلّين الذين لا يتجاوزون عشرات
الأشخاص!
نعم، آيا صوفيا كانت كنيسة لعدّة
قرون، وأصبحت مسجداً لعدّة قرونٍ أخرى، وقبل عشرات السنين
تحوّلت لمتحف، وهي اليوم تعود لتصبح مسجداً. ونعم، لا تزال
تحرّكها الألعاب السياسيّة تحت غطاء الدين لكنّ رسالتنا
اليوم هي أن نصلّي ليس لكنيسة الحجر بل لكنيسة البشر لجسد
المسيح الممزّق. نصلّي لوحدة المسيحيّين الذين إلى اليوم
لا يحتفلون بعيد الفصح معاً! نصلّي لكلّ من ترك المسيح
وترك كنيسته. نصلّي كي يقودنا الروح القدس لنبني حضارة
المحبة والتسامح، لنبني ملكوت العدل والسلام. ولنُعلّم
أبناءنا كيف يعيشون هذا الملكوت وكيف يستمرّون في بنائه
حبّاً بمن مات وقام من أجلنا. ولنتذكّر قول المسيح
للسامريّة حين سألته عن المكان الذي يجب التعبّد فيه قال:
"تأتي ساعةٌ تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم......
إنّ الله روح فعلى العباد أن يعبدوه بالروح والحق"(يوحنا4/24،21).
|