Home

 

   

المجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني والحياة الرهبانية


لما كانت الحياة الرهبانية في الكنيسة هي بمكان القلب من الجسم بما تبعثه فيها من مجاري الروح والرسالة والفكر والرعاية, كان لا بدَّ للمجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني وغايته تفجير منابع التجدّد في الكنيسة, من أن يهتم لأمر الرهبانيات والحياة الرهبانية بما يعود عليها بالخير في الداخل, وعلى الكنيسة والعالم بالنفع الجزيل في الخارج. فسنّ لها من القواعد العامة ما يجعلها تتلاءم مع واقع العصر ومستلزماته, ويجدّد فيها نشاط الروح الرهباني الأصيل, ويعزّز دعائم الكمال الإنجيلي فيها, داعياً الرهبان إلى بعث نهضة جامعة ليجعلوا من حياتهم المقدسة دليلاً ساطعاً على أولية الروح في هذا الوجود, وعلى ضرورة وجود الكنيسة سفينة خلاص للبشرية كلها جمعاء. وإصابةً لهذا الغرض اهتم المجمع بأبرز الخطوط الأساسية الدالّة على وثيق العلاقة بسرّ المسيح, والهادفة إلى تحقيق التجدّد في مختلف الأبعاد, متأصّل الجذور, واسع الآّفاق.

فالحياة الرهبانية, في نظر المجمع إنما هي تلبية لدعوة المسيح الرب إلى الكمال, والسير على خطواته في سيرته المثالية, والاتحاد بالله إتحاداً لا يُفصم كإتحاد العريس بعروسه. ومما يستلفت الانتباه أن المجمع لا يميّز بين الوصية والمشورة على نحو ما كان يفعله أكثر المؤلفين الروحيين في معرض كلامهم على الحياة الرهبانية. ذلك في الواقع, بأن علاقة المشورة بالوصية ليست إلا كعلاقة الوسيلة بالغاية. فالوصية هي المحبة الكاملة لله, وهي من ثم تُلزم الجميع بدون ما استثناء وأما المشورة فلا تُلزم إلزاماً ثقيلاً إلا فئة معينة من المؤمنين أي فئة اللذين يعتنقونها بالنذور الرهبانية, طريقاً لا تعرّج فيه إلى محبة الله غاية كل إنسان. ولما كان بالإمكان إدراك هذه المحبة بحفظ الوصايا والمشورات الإنجيلية لم يكن من باعث على التمييز بين الوصية والمشورة, لأن ما يقصد إليه المجمع بقراراته إنما هو إنعاش الحياة الروحية في المؤسسات الرهبانية وفقاً لمستلزمات الحالة التي انتظمت في سلكها هذه المؤسسات بدون ما نظر إلى ما هو بحكم المشورة. من أجل ذلك اقتصر المجمع على تحديد جوهر الحياة الرهبانية القائم على اتباع السيد المسيح والأخد بمُثله السامية. والمراد باتباع السيد المسيح إنما هو الاقتداء به والسير على النهج الذي انتهجه في سيرته من طهارة وفقر وطاعة. والاتحاد بالمسيح يراد به أيضاً الإتحاد بالكنيسة "لأن الكنيسة عروس المسيح وجسده السّري" (1ف 1 : 23) ولا يُعبّر عن هذا الإتحاد التعبير الحسن بغير المحبة للمسيح والكنيسة،محبة إيجابية فعلية فاعلة, أي عاملة في خدمة المسيح بخدمة الكنيسة, بقدر ما في الطاقة, ووفقاً لميزة كل مؤسّسة. بيد أن المؤسسات إذ اختلفت في أهدافها الخاصة ومميزاتها الذاتية لا تختلف في الجوهر والأهداف العامة. من أجل ذلك، واثباتاً للعلاقة المتينة القائمة بين الحياة الرهبانية وحياة الكنيسة, يربط المجمع تكريس الحياة الرهبانية بتكريس المعمودية, ويشير إلى أن حياة الكمال الرهباني وجه من وجوه محبة الكنيسة للمسيح. وبديهي أنه لا يمكن ولوج سر المحبة هذا بدون الكنيسة, وإن ما يغذي المعمد في حياته الروحية هو نفسه يُغذي من نَذَر نفسه على الله ويحصر المجمع منتجع هذا الغذاء الروحي في الكتاب المقدس والليتورجيا الكريمة, والإفخارستيا الإلهية، لأن من يريد أن يتبع المسيح الرب ويتحد به على الوجه الأكمل لا بد له من أن يسمع كلمة الله المدونة في الكتاب الكريم, وأن يُسبّح بكمالات الله وحمدهِ وفقاً للطقوس المقدسة التي أقرتها الكنيسة،ويقتات بجسد المسيح الطاهر في سر الإفخارستيا.

وعند قراءتنا النص المجمعي المختص بالرهبان يظهر لنا جلياً أنه يشدد على ضرورة التجدد في الحياة الرهبانية, وإعادة النظر في القوانين والعادات لكي تُصاغ صيغة جديدة تتلاءم مع حاجات الكنيسة والأوضاع القائمة, وتُمكّن الرهبان من القيام بواجباتهم الخاصة قياماً أفضل يُفضي بهم إلى تقديس نفوسهم وخدمة المؤمنين بالمسيح خدمةً أجدى. ولا يخفى أن مثل هذا التجدّد لا يستقيم إلا بالرجوع المستمر إلى الينابيع, والتجاوب مع أوضاع الحياة الراهنة. ويساعد على هذا التجدد بوجه فعال, الانصباب على الدرس تحصيلاً للمعارف الضرورية في خدمة الكنيسة بيد أن هذا كله لا يجدي ما لم ينتعش بالتجدد الروحي. ومما يسترعي الانتباه اهتمام المجمع بتشجيع حياة التأمل المحضة على ما هنالك من مسيس الحاجة إلى العمل الرسولي, والنشاطات في الخارج, يقيناً منه أن هذا النوع من الحياة مَعِينُ نعمٍ لشعب الله, ومصدر خصبٍ رسولي في الكنيسة, لذلك يؤكد أن الرهبانيات المنقطعة إلى حياة التأمل تحتلّ محلاًّ مجيداً في المسيح السرّي الذي هو الكنيسة.

وأما النذور فالمجمع يعزّز دعائمها, ويهيب بالرهبان والراهبات إلى حفظها بكل أمانة. ذلك بأن انتعاش الحياة الروحية في الكنيسة مُترتّب على هذه المحافظة التامة على النذور والعمل بها. ويرى أن العفة هي عطيّة النعمة الكبرى لأنها تحرر الإنسان من قيود المادة فيتسنى له الانطلاق في أجواء الروح, ويحذر من الانخداع بتخرصات الزاعمين أن المحافظة على العفّة أمر يفوق الطاقة وحائل دون التقدم البشري. وإنما للحفاظ على هذه الجوهرة الكريمة لا بد من التحوّط وممارسة الأمانة ضبطاً للنوازع الجسدية.

والفقر الاختياري الذي يلتزمه الرهبان بالنذر اقتداء بالفقير الأكبر، يسوع الرب، فيقدّره المجمع غاية التقدير وعليه يعلّق الأمل في ازدهار الرهبانيات وتقدّمها الروحي. لذلك لابدّ للرهبان من الإقلاع عن كل اهتمام مفرط بالأرضيات جاعلين ثقتهم في الله وحده. ويذكّرهم المجمع أنهم خاضعون كسائر الناس لسُنَّة العمل الشاملة. وعليهم في كل حال أن يؤدّوا لروح الفقر شهادة جماعية, فيكونوا,في واقعهم, من هذا القبيل, شهادة وضاءة لوجه الكنيسة ومؤسسها.

وأما الطاعة فقوامها تقديم الذات تقدمة تامة لله لكي يتسنى للراهب أن يتحد به تعالى إتحاداً وثيقاً أكيداً. ولكن إذا كان الراهب يتجرد من إرادته بملء اختياره ليخضع لارداة الرئيس بإيمان ومحبة وإحترام, وذلك إقتداءً منه بالسيد المسيح الذي إنما أتى" لا ليعمل مشيئته بل مشيئة الآب الذي أرسله" فعلى الرئيس أن يمارس سلطانه بروح الخدمة، وبالاحترام اللائق بكرامة الشخص البشري. وحاشى لمثل هذه الطاعة الراسية على مثل هذا الأساس من النبل وسمو الأهداف أن تنقص من كرامة الإنسان, إنها على النقيض من ذلك, ترفعه إلى ملء حريّة أبناء الله.

وقد جاء غير مرة في النص المجمعي أنه يجب على المؤسسات الرهبانية أن تلبي حاجات الكنيسة والناس بوجه يتلاءم مع أوضاع العصر الحاضر. إن حاجة الكنيسة والناس هي هي في كل عصر ومصر, وهي أن يعرف البشر جميعاً أن يسوع المسيح هو الرب, ابن الله المتأنس لخلاص البشر ورفع الإنسان إلى مستوى البنوة لله, وأن يؤمنوا به, ويندمجوا أعضاءً حية في جسده السّري الذي هو الكنيسة. وهذه الغاية لا قِبل للرهبان ببلوغها ما لم يجدّدوا فيهم حياتهم الرهبانية في جميع أبعادها,ويحيوها على الوجه الأتم . وعليه قد بات لزاماً على جميع الرهبان أن يتملّوا من دعوتهم السامية عالمين أن حياتهم إنما هي موت مع المسيح للحياة له و به, وهي انتقال من الفساد إلى عدم الفساد, ومن الجسد إلى الروح, ومن عبودية الإنسان العتيق إلى حرية الإنسان الجديد, ومن الخطيئة إلى النعمة. إن عُصارة الحياة الرهبانية موت وحياة, صليبٌ وقيامة, آلام وفداء. إنها " حبة الحنطة تقع في الأرض, فإن لم تمت بقيت وحدها ,وان ماتت أتت بالثمر الكثير (يو 12: 24).