Home

 

   

الحياة الرهبانية: تحديد ومفهوم
يا بُنيّ إن أقبلت إلى خدمة الرب فأعدَّ نفسك للتجربة"
سيراخ 2: 1"
 

ما هي الحياة الرهبانية ؟

هي نوع من الحياة المشتركة، دائم وثابت، به يصمّم بعض المؤمنين على حفظ، ليس فقط الوصايا العامة، بل أيضا المشورات الإنجيلية ، بواسطة نذور العفة والطاعة والفقر.
يتضح من هذا التحديد بأن الحياة الرهبانية  تنطوي على أُسس ثلاثة رئيسية ،هي :
1.مجموعة إلزامات
2.الطابع الدائم
3.الطابع العام

فالحياة الرهبانية هي حياة أو حالة، وهي كما حدّدها البعض "حالة من طبيعتها لا تتغيّر بسهولة. فالثبات وعدم التغيّر شرطان أساسيان و جوهريان لها".

وكلمة حالة توحي بالديمومة والثبات.و لأجل الثبات والبقاء في الحالة نفسها كانت النذور أو الالتزامات فالنذور هي أمر أساسي و مهمّ في الحياة الرهبانية.إنما يجب أن تكون هذه النذور عامة.فالإنسان يمكنه أن يعيش عيشة رهبانية، و هو غير منخرط في سلك رهباني. و حياته حينئذٍ لا تُدعى حياةً رهبانية بالمعنى الصحيح، إذ ينقصها طابع المؤسسة وطابع الجماعة وطابع التثبيت من الكنيسة. ثم إن الحالة الرهبانية هي واقع عام، إذ أن من يدخلها يلتزم بالتزامات قانونية و شرعية .

فهو يلتزم بخدمة الله في كمال حرية الروح ، بواسطة سلوك عام و ظاهر. و يظهر هذا الطابع العام للحياة الرهبانية في موافقة الكنيسة على الفرائض وفي الثياب الخارجية، و في أعمال رهبانية خاصة.بعد هذا الشرح يمكن تحديد الحياة الرهبانية أيضا بأنها حالة أو حياة يبعثها و يغذّيها الروح القدس في أعماق قلب الإنسان ، و هي حالة جعلتها الكنيسة رسميةً و عامة.وغنيّ عن البيان ،أن الحياة الرهبانية هي واقع اجتماعي إذ أنها مؤسسة نظامية تفترض دوماً طواعية داخلية والتزاماً داخلياً.هي طواعية النعمة والالتزام بالدعوة.علَّم المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي عن الكنيسة فقال عن الحياة الرهبانية أنها حياة يلتزم المؤمن نفسه بها بممارسة المشورات الإنجيلية الثلاث المشار إليها بالنذور أو بالتزامات أخرى مقدسة تشبه النذور حسب شكلها الخاص، ويسلّم نفسه هكذا بالكلية إلى الله الذي يحبّه فوق كل شيء، فيصبح معدّاً لخدمة الرب وإكرامه بصفة جديدة و خاصة .

إذن الحياة الرهبانية تنبثق عن النذور الثلاثة التي يبرزها الواحد بغية الثبات فيها.

والكنيسة لا تطبّق إنعامات الحياة الرهبانية إلا على أشخاص يعيشون تحت سلطة رئيس . و هكذا يبين أن العيشة المشتركة هي أساس رابع مهمّ في الحالة الرهبانية.

الحياة الرهبانية هي حياة كمال

وتدعى الحياة الرهبانيّة حياة كمال أو حالة كمال، لأن الرهبان بتقيّدهم بالمشورات الإنجيلية علانيةً وداخلياً يلتزمون بتنحية كل عائق يحول دون الوصول إلى محبة كاملة لله تعالى. فالكمال هو في جوهره المحبة.هكذا تبين ممارسة النذور في الحالة الرهبانية إنها ممارسة المحبة الكاملة، والمحبة لله الكاملة تحوي في طيّاتها محبة القريب . لذلك كانت بعض الرهبانيات تُلزم أعضاءها بخدمة الإنسان في حاجاته المختلفة.و هذا ما قصده القديس بولس بقوله :"إن المحبة هي رباط الكمال" (كولسي 3/14).

القانون الغربي و الحياة الرهبانية

يعدّد الحق القانوني الغربي القديم و الجديد ركائز الحياة الرهبانية هكذا:

الحياة المشتركة: بدونها لا تقوم حياة رهبانية حقيقية . فممارسة النذور الثلاثة ، بدون حياة مشتركة يفضي إلى مؤسسة علمانيّة وليس إلى مؤسسة رهبانيّة بالمعنى الصحيح.

التزامات عامة: يجب أن تحوى الحياة الرهبانية الوصايا كلها، و الوصايا الخاصة كالعدل والصدق والشرف والأمانة وغيرها من الالزامات الإنسانية . فالراهب هو إنسان كامل الصفات ، وكامل الطواعية لكل نظام و ترتيب ووصية.

المشورات الإنجيلية: يوجد ربط بين المشورات الإنجيلية والنذور .فالنذور هي مشورات إنجيلية،إنما هي أعظمها وتساعد على ممارسة سائر المشورات الإنجيلية.و بدونها لا تستقيم حياة رهبانية.

الحق القانوني الشرقي و الحياة الرهبانية

نقرأ في القانون الأول : " الحالة الرهبانية هي طريقة ثابتة في إحدى الجمعيات التي أثبتتها الكنيسة، فيها ، فضلاً عن الوصايا العامة ، يعكف المؤمنون على ممارسة المشورات الإنجيلية أيضا بنذورهم الطاعة و العفة و الفقر ، نذراً عمومياً تحت قيادة رئيس شرعي ، حسب الفرائض.

إنجيل الحياة الرهبانية

الإنجيل والحياة الرهبانية

الحياة الرهبانية، كالحياة المسيحية، هي حياة أسسها السيد المسيح نفسه في حياته على الأرض. إننا نجد في الإنجيل آيات كثيرة تحكي عنها، و تحددها و تثبّتها:

"أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع، لِمَ تدعوني صالحاً لا صالحَ إلا الله وحده. انك تعرف الوصايا: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك.. فقال له، يا معلم، هذا كله قد حفظته منذ صباي. فماذا ينقصني بعد . فنظر إليه يسوع و أحبه، و قال له: واحدة تعوزك بعد، اذهب وِبعْ كل شيء و تصدَّق به على المساكين و تعالَ اتبعني، فيكون لك كنز في السماء".(متى 19 / 21)

وكذلك ورد في بشارة القديس مرقس : " إذا كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب و بِعْ كل شيء و تعالَ اتبعني. "(مرقص 10/17). نجد في هذه الكلمات الإنجيلية، الأُسس التي ثبّتها اللاهوت فيمَا بعد لتحديد الحياة الرهبانية وهي :

يكفي للدخول إلى الملكوت، ولنيل الحياة الأبدية، حفظ الوصايا.
لكن , لكمالٍ أوفر ينبغي إضافة أمور أخرى تمتّ إلى الملكوت، وتساعد للوصول إليه.
فهناك إذن طريقان: طريق عام، يسلكه الجميع, و طريق خاص، يسلكه قلّة من الناس.

لكي يكون الإنسان كاملاً لا بدّ له من تركِ كل شيء. وهذه الأشياء حسب الإنجيل هي الخيرات كلها وكذلك الاهتمام و التعلّق الأرضي بها. وآنئذٍ فقط ينال الإنسان مئة ضعف والحياة الأبدية.

لكن، هذا الطريق لا يلتزم بإتباعه أحد. إنما يوجد خطر أن يبقى الإنسان عائشاً وسط هذه الخيرات المادية بعدما ناداه المسيح وأمره بالابتعاد عنها و إتّباعه.

إن اتّباع المسيح في الإنجيل يأخذ معنى خاصاً و محدداً . فقد كان يتبع المسيح كثير من التلاميذ، الذين تركوا كل شيء، والذين كانوا يعيشون معه، والذين كان يتلقّون مثائله عاملين جهدهم للتمثِّل بحياته المثالية.لكن بين هذه الجمهرة الكبيرة، ويعدّها الإنجيل بالاثنين والسبعين وغيرهم، هناك فئة صغيرة معيّنة، حبيبة جدّاً إلى قلب يسوع وهي الرسل الاثنا عشر. وهؤلاء هم الرهبان الأوائل.لكن هذه الفئة المختارة مارست العمل الرسولي والتبشير بالإنجيل فغطّى هذا العمل على صفتهم الأولى وهي الرهبنة, و شاع اسمهم الأول الرسول وتغلّب على اسم الراهب.إنما لا بدّ من الإشارة هنا إلى الترابط الوثيق بين الحياة الرهبانية و حياة الرسالة. فالاثنتان تستلزمان الترك والتجرّد، والانقطاع عن أمور الأرض و خيراتها.
 إن إتباع المسيح حسب الإنجيل يأخذ أبعاداً أخرى، ويعني إتباع ممثلي المسيح : " فمن قَبِلَكُم فقد قَبِلَني، ومن سمع منكم فقد سمع مني..." (لوقا 10/16)

 نفهم من النصّ الإنجيلي أن الترك هو ترك كل الخيرات الأرضية. لكن يفهم أيضاً من تتبّع حوادث الإنجيل انه يعني ترك المرأة، والعائلة. "مَن ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُماً أو أولاداً أو حقولاً من أجلي ومن أجل الإنجيل ينال مئة ضعف". (متى 19/29).

يقول الإنجيل إن  يسوع نظر إلى ذلك الشاب الطالب الكمال فأحبّه .وكل إنسان يحبّه الله . لكن يظهر أن الحبَّ هو خاص، وعظيم لأن ذلك الإنسان ترك كل شيء و تبع المسيح.

و يتابع الإنجيل :" واحمل صليبك " وهي كلمة مهمة تسترعي الانتباه. فحَمْلُ الصليب هو من ركائز الحياة الرهبانية،و بدونه لا تستقيم أبدا.

مفهوم الإنجيل للحياة الرهبانية

حسب الإنجيل تبين الحياة الرهبانية في الخطوط التالية:

ارتداد
هذه هي الكلمة الأولى في الإنجيل وقد قالها يوحنا في بدء رسالته: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات"(متى 3/2). " توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر1/15) و قد ردّدها كثيراً يسوع في الإنجيل.

وهذه التوبة تعني الارتداد ، والتغير الجذري في الحياة ، أي تغير الذهن و العقلية و الاتجاه و الحياة بكاملها.إن الحياة الرهبانية هي ترك الحياة القديمة ، مهما كانت كاملة مسيحياً لأنها لم تكن ناصعة الشهادة, ولا ملتزمة التزاماً كاملاً بالإنجيل.وهي تغيير يهدف إلى عيشة حسب الإنجيل . واتباعٍ ليسوع.

حياة داخلية
الحياة الرهبانية هي ثورةٌ في الداخل. وهذه هي ثورة الإنجيل : "نَقِّ أولاً داخل الكأس والجام حتى يتطهّر خارجهما أيضا".(متى 23/26) "سراج الجسد العين، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّراً."(متى 6/22) "من فضلة القلب يتكلم اللسان" (متى12/34) "إن الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئا." (يوحنا 6/63).فالحياة الرهبانية هي إعطاء الأهمية الكبرى للداخل . "ملكوت الله في داخلكم."(لو 7/21).إنها تحرّك داخلي تحت نسمات الروح القدس.

وهكذا تبين الحياة الرهبانية أنها روح:" والروح هو الذي يحيي ، أما الحرف فيقتل ."(يوحنا 6/36).نعم هي روح ولكنها فريضة و نظام و قوانين وعوائد.و كل هذا هو لخدمة شيء واحد هو الروح.

العذاب
يكون الارتداد والانتقال من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله بالصليب.فمن يريد أن يكون تلميذاً خاصاً للمسيح يجب أن يتبعه في طريق العذاب ، وفي درب الآلام و يُصلب معه على الجلجلة ."مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه كل يوم, ويحمل صليبه و يتبعني." (متى 16/24)
وهكذا تظهر حياة الرهبانية أنها مغموسة كلها بالآلام والعذاب.قال أحد الكتبة :"إن الحياة الرهبانية تعززت و انتشرت لمّا خفّت زوبعة الاضطهاد. فهي في الحقيقة ظهور دائم للاستشهاد".كلمات الإنجيل واضحة: " بهذا يعرفون أنكم تلاميذي إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضا" (يوحنا13/35). "بهذا نعرف أننا في الحق إذ كنّا في المحبة."(1 يوحنا 3/19). "من يحب أخاه، يبقى في النور، وليس له سبب سقوط."(1يوحنا2/10) "نعرف أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحبّ الإخوة." (1 يوحنا3/14).

لأن الحياة الرهبانية هي حياة كمال، فهي حياة محبة لله ومحبة للقريب. من هذا تبين ضرورة الحياة المشتركة، فهي حياة تمارس فيها المحبة بنوع كامل.

مبادئ الحياة الرهبانية في الإنجيل

المسيح بدعوته الرسل إلى الحياة الرسولية، وإلى حياة التجرّد أسّس نوعاً من الحياة الرهبانية.
والحياة الرهبانية، في الحقيقة ليست إلاّ حياة مسيحية تتجسّد بنوع كامل في حياة الإنسان.و هي تستوحي أُسسها ونظمها من تعليم الإنجيل.ولذلك اعتبر كثير من اللاهوتيين العماد المقدّس نوعاً من النذور.يمكن القول أن الجماعة الرسولية الأولى ,التي كانت تتألف من الرسل والتلاميذ الأولين كانت جمعية رهبانية هدفت إلى نشر البشارة الصالحة بحياة التبشير ، والشهادة المُثلى للمسيح و حياة التجرّد.ونرى بعض إشارات إلى الحياة الرهبانية. "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل."(متى 5/48) "وإذا أراد أحد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني"(متى 16/24) و قد وردت آيات أخرى في الإنجيل.قال القديس توما الأكويني، شمس المدارس: "إن الحياة الرهبانية ترتقي إلى الأيام التي عاش فيها السيد مع رسله و تلاميذه على الأرض.إن الرسل تكرّسوا للرب في حياة كمال و قداسة لما تركوا كل شيء ليتبعوا المسيح."

لمن نصح المسيح بالحياة الرهبانية

يجب الانتباه إلى هذه النقطة وهي أن الحياة الرهبانية ليست الحياة الإنجيلية الوحيدة.
هي نوع من الحياة الإنجيلية، تُعاش ضمن نظام الحالة الرهبانية التي تفترض النذور المقدسة.
فهناك بالأكيد قدّيسون لم يكونوا رهباناً ، ومع ذلك مارسوا الحياة الإنجيلية و المشورات الإنجيلية نفسها التي يمارسها الرهبان، لكن دون نذور ثلاثة.ومن الأكيد أيضاً أن الله وقع اختياره ،منذ الأزل على البعض ليكونوا في الحياة الرهبانية الفضلى الكاملة. "إن الله الذي فرزني من جوف أُمي..." (غلا1/15) " قبل أن أصوِّرك في البطن عرفتك و قبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبياً للأمم" (ارميا 1/24).لا مجال للدخول في بحث مشكلة التحديد المسبق للخلاص هنا لكن من الثابت أن الله يهيء نفوساً مختارة لكي تتجه إليه بحياة الكمال،أي بالحياة الرهبانية وذلك بزرعه فيها استعدادات طبيعية و اجتماعية و حتى جسدية، تساعدها للبلوغ إلى الكمال.

لاهوت الحياة الرهبانية

الإنسان كائن يسعى إلى الكمال

إن الإنسان يكون كاملاً عندما يحقق الغاية التي خُلق من أجلها، وهذه هي السعادة . و حالاً يتبادر إلى الذهن: ما هي غاية الإنسان من وجوده على الأرض.أجاب على هذا السؤال كثير من الفلاسفة ،والعلماء ، والناس كلهم ، كبيرهم وصغيرهم، فلا أحد يريد أن تبقى حياته دون هدف، ولا أحد يريد أن تكون حياته تاعسة وقلقة.أجابت على السؤال : الديانات المختلفة والفلسفات الكثيرة القديمة والحديثة، ومنها الوجودية و الشيوعية وغيرها.

إنما أجوبتها مختلفة، ومتضاربة.جرّب الإنسان في حياته طُرقاً كثيرة للوصول إلى شيء يقنع به و يسعد به، و يرتاح إليه، و يضعه غاية يصبو إليها.

وكانت تجربة الإنسان مع المال والغنى و اللذّة.إلى أين وصل مع هذه كلها ؟هل بلغ إلى السعادة الحقّة والدائمة؟ ماذا كانت نتيجة العلم؟ وصل الإنسان إلى أعظم الاختراعات، ووصل إلى القمر،إنما وصل معها إلى امتلاك سبب التدمير والقتل وزرع البلبال والفوضى في العالم.ماذا أفاد المال والغنى الإنسان؟ هل أعطاه الهناء والسعادة ؟ قال سليمان الحكيم الذي كان أحكم بني البشر، والذي طالت يده أكثر ما يشتهيه الإنسان "باطل الأباطيل وكل شيء باطل ما خلا محبة الله." (جا 1/2 -1 /14)

وأين أوصلت اللذّة الإنسان الذي تمتع بها وشبع منها.تركت آيف لافليار _أعظم راقصة في عصرها_ العالم و سجنت نفسها في الدير إذ وجدت فيه السعادة ، فاللذّة عابرة و سريعة.

وهل أعطى المجد والسلطان السعادة ؟ دخل قائد على السكندر فرآه حزيناً يبكي.إن خضوع الأرض التي "سكتت بين يديه" كما قال الكتاب وامتلاك كل ما فيها لم تشبع قلبه، ولا ارتاحت إليها نفسه.إن غاية الإنسان على الأرض ليست في هذه كلها، بل في الله وحده. "إن الله خلقنا يقول كتاب التعليم المسيحي لكي نعرفه، ونحبه ونخدمه. هذه هي غاية الإنسان , وهذه هي سبب سعادته.فالله هو كل شيء للإنسان "أنا الألف والياء، أنا البداية والنهاية "(رؤيا 1/8)

" لا يزال قلبنا قلقاً إلى أن يرتاح فيك يا الله". قال القديس اغوسطينس.

الكمال هو محبة الله والقريب

يبين من الإنجيل أن الوصول إلى الله. و هو غاية كل إنسان لا يكون إلاّ عن طريق المحبة.
فالكمال إنما هو المحبة ". " الله محبة "(1 يوحنا 4/8) وحسب القديس توما كمال الحياة الإنسانية والمسيحية هو في كمال المحبة.فحيث المحبة فهناك الكمال قال القديس اغسطينوس.و لا فرق بين محبة الله ومحبة القريب.هما توأمان.و بهذا المعنى قال القديس يوحنا :"مَن قال إنه يحب الله ، وهو يبغض أخاه، فهو كاذب"(1 يوحنا 4/20) وهذا ما علّمه يسوع في الإنجيل "أحبب الرب إلهك من كل قلبك، وكل نفسك، وقريبك كنفسك.بهذا يقوم الناموس كله والأنبياء" (مرقص 12/30 لوقا 10/27).

الراهب هو طالب كمال

إن المحبة عند الراهب تأخذ أبعاداً كثيرة. فهي تضفي على حياته طابعاً خاصاً، وتنظّم له الوسائط الملائمة والأكيدة والمباشرة لكمال المحبة.فالراهب هو معمد التزم علانية وداخلياً بالسعي إلى الكمال الإنجيلي، وهو يستخدم الواسطة الممتازة للوصول إلى هذه الغاية،و هي الحياة الرهبانية.فمن الوجهة السلبية،يطرح الراهب كل عائق للمحبة، ومن الوجهة الايجابية يتم كل شيء لله ليبلغ إلى المحبة.و لذلك كانت النذور. فهي في الأساس واسطة تسهّل للإنسان ترك كل شيء و التجرّد الكامل لأجل التكرس لخدمة اللهو في الحقيقة يتخلى الراهب بالنذر عن الغنى و اللذة و الحرية.ا
هكذا حدّد القديس توما الراهب بقوله :"هو من تجرّد بالحقيقة وبالواقع عن الخيرات الزائلة ليحفظ قلبه لله وحده، حرّاً في محبته له، وفي الاهتمام به وحده."

و يقسم القديس توما الخيرات إلى خيرات خارجية، وخيرات داخلية.وهذه الأخيرة هي خيرات الحواس والقلب و الحرية العظيمة.فالتغلّب على الحواجز التي تضعها الخيرات كلها يتم بالنذور، أي بالترك ، والانفصال عن خيرات جميلة وحسنة, التي قد تكون مانعاً للكمال أي للمحبة الكاملة.

ضرورة السعي الى الكمال

لا بدّ من الملاحظة. فالحياة الرهبانية رغم جمالها وشرفها العظيم وموافقتها للوصول إلى الله ليست إلزامية لجميع المعمّدين، و لا لجميع التائقين إلى حياة الكمال والراغبين في ممارستها.

فلابدّ لها من دعوة خاصة، ومن مؤهلات خاصة ، و استعدادات شخصية.وبهذا نشرح قول السيّد " من أراد أن يتبعني ....إن أردت أن تكون كاملا..."ونلاحظ ثانياً أن السعي إلى الكمال لا يعمل الحياة الرهبانية، إذ أن كل المؤمنين، خصوصاً المعمّدين يلتزمون بالسعي إلى الكمال،" كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل." (متى5/48).يبين الفرق بين الراهب و المعمّد، فالراهب يسعى إلى الكمال بوسائط, هي الأحسن و الأفضل بحدّ ذاتها، وهي التي أوصى به المسيح و الكنيسة.


المسيح مثال الحياة الرهبانية

كلمة المسيح واضحة: تعال اتبعني و مراراً ردّد المسيح أمر اتباعه هو. فاتّباع المسيح هو جوهر الحياة الرهبانية.حسب رأي الكتبة الروحيين، شرح الحياة الرهبانية وتبيان التزاماتها والتغنّي بأمجادها؛ هو شيء عابر، وقانوني، وخارجي.إن السؤال الذي يطرح هو ماذا تعني الحياة الرهبانية في الواقع؟ قد تكون تجرداً، ومحبة,وفقراً.لكن يفوق كل ذلك الاقتداء بالمسيح، واتّباع أمثلته وتجسيد الإنجيل في حياة تشبه،قدر استطاعة الإنسان حياة المسيح.فالمسيح هو الراهب الأول، وتلاميذه كانوا الرهبان الأوائل،والراهب الحقيقي هو من نسخ صورة المسيح في حياته؛إن المسيح هو كل شيء للراهب ، وأعلى مثال.

وأحسن قدوة.من الأكيد أن المحبة تتكامل في نفس الراهب كل يوم، وهي تقوده إلى اتباع يسوع. وهكذا تلتقي المحبة مع الاقتداء بالمسيح.إن أحسن طريقة للسير قدُماٍ في طريق الكمال وفي ممارسة الحياة الرهبانية هو التطلّع إلى يسوع. فالحياة الرهبانية هي اكتشاف دائم للمسيح وللإنجيل، وهي ارتداد دائم إلى المسيح  حتى بعد عثرات الطريق، وهي تطلع مستديم إلى المسيح الذي هو وحده "الطريق و الحق و الحياة".