سجل الزوار

 اضفنا للمفضلة

اتصلوا بنا

الرئيسية

 

عيد العنصرة: مجيء الروح القدس

 

في إنجيل احد العنصرة (يوحنا 15: 26-27 و 16: 12-15) يتكلم يوحنا الانجيلي عن مجيء الروح القدس خاصة في يوم العنصرة كي يثبِّت الرسل في الخلاص والشهادة والقداسة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

اولا : وقائع النص الانجيلي (يوحنا 15: 26-27 و 16: 12-15)

26 "ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي": تشير عبارة "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" الى ان الروح ينبثق من الآب كما نقول في قانون الايمان والمرتبط بالمسيح الممجّد ارتباطاً وثيقا بحيث يرسله المسيح الى الكنيسة كما ورد في الكتاب المقدس "الروح القدس الذي أفاضه علينا وافراً بيسوع المسيح مخلصنا" (طيطس 3:6). ومن هنا نجد أنّ الروح القدس يصدر عن إرادة الآب والابن او عن محبتهما المتبادلة، بينما الابن مولود عن عقل الآب. أما عبارة "هُو يَشهَدُ لي" فتشير الى ان الروح القدس يشهد للمسيح أمام التلاميذ وبواسطتهم يشهد أمام العالم (يوحنا 16: 5-15).

27 "وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء": تشير هذه الآية الى شهادة التلاميذ الذين رافقوا يسوع في حياته منذ بدء خدمته الرسولية كما ورد في تاريخ الجماعة المسيحية الاولى "هُناكَ رجالٌ صَحِبونا طَوالَ المُدَّةِ الَّتي أَقامَ فيها الرَّبُّ يَسوعُ مَعَنا" (الرسل 1: 21)، لكن في الوقت نفسه تشير الآية الى شهادة روح الحق الذي يفتح فهمهم لمعرفة المسيح معرفة عميقة، ويُذكِّرهم به، ويواصل تعليمه لهم فيُضفي هكذا على تبشير هؤلاء التلاميذ قوته الصحيحة وحقيقته البيّنة كما ورد في اعمال الرسل "يَشهَدُ الرُّوحُ القُدُسُ الَّذي وهَبَه اللهُ لِمَن يُطيعُه" (اعمال الرسل 5: 32). والتلاميذ يشهدون للمسيح ويحملوا البشارة الى أقاصي الارض تلبية الى طلبه "تكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض (اعمال الرسل 1: 8). أما عبارة "مَعي مُنذُ البَدْء" فتشير الى التلاميذ الذين رافقوا يسوع، وسمعوا تعليمه، وشاهدوا مجده على ما جاء في الكتب "وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور" (لوقا 24: 48).

1 "قُلتُ لَكم هذه الأَشياءَ لِئَلاَّ تَعثُروا": يدل فعل "تَعثُروا" في اللغة اليونانية σκανδαλίζω على ما يُمتحن الايمان. فالمصاعب التي يُثيرها بغض العالم على يسوع وتلاميذه من شأنها ان تكون لإيمان التلاميذ امتحانا شاقاً. فقد يضعف إيمانهم. فالشك يجعل المؤمن يسقط بحيث يمرّ في محنة يمكنها ان تُبعدَه عن الرب. إذ ان بغض العالم لهم يجعل المؤمنين يتساءلون عن حضور الله في كنيسته. لكن كلام يسوع يعبّر مسبقا عن معنى العثار (الشك) الحقيقي في المخطط الالهي، ويمكن إذاً من التغلب على المحنة. الم يقل يسوع "أهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟" ( يوحنا 6: 61).

2 "سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع بل تأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادة": إن عبارة "سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع" تشير ان الدين اليهودي كان يتخذ بعض التدابير لفصل فئة من المذنبين في أيام يسوع. فعلى سبيل المثال خاف والدا الأعمى الذي شفاه يسوع في القدس بالاعتراف ان يسوع هو المسيح "لأَنَّ اليَهودَ كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح". ولكن لم يظهر تحريم المسيحيين من الدخول الى المجمع إلاّ في أواخر القرن الاول. ومن المرجّح ان يوحنا الانجيلي نسب الى الماضي تدبيراً حديثاً (يوحنا 9: 22). اما عبارة " يُؤَدِّي للهِ عِبادة" ورد في تقليد حزب الغيورين "من أراق دم كافر مثل من قرّب ذبيحة". فاليهود الذين يعلمون ذلك يعتبرون نفوسهم انهم يدافعون عن الدين ويعتقدون انهم يقومون بفريضة الله كما حدث مع بولس الرسول قبل اهتداه "أَمَّا أَنا فكُنتُ أَرى واجِبًا علَيَّ أَن أُقاوِمَ اسمَ يسوعَ النَّاصِريِّ مُقاوَمَةً شَديدة" (اعمال الرسل 26: 9-11). وتتخذ الاضطهادات كذلك طابعاً دينيا. وقد تمّت هذه النبوءة عندما طرُد اسطفانس من المجمع ورجم بالحجارة حتى الموت (اعمال الرسل 7: 57-60)؛ وكذلك عندما كان شاول (بولس ) يجول في البلاد يضطهد المسيحيين ويقتلهم تحت ارشاد وتوجيه رئيس الكهنة (اعمال الرسل 9:1).

3 "وسَيَفعلونَ ذلك لأَنَّهم لم يَعرِفوا أَبي، ولا عَرَفوني": تشير عبارة "ولا عَرَفوني" الى انهم لم يريدوا ان يعرفوا، ولهذا تبقى خطيئتهم عليهم فتدينهم. واما عبارة "لم يَعرِفوا أَبي، ولا عَرَفوني" فتبرز العلاقة بين الآب والابن، بحيث إن من رفض ان يعرف الابن، دلّ على انه يجهل الآب.

4 "وقد قُلتُ لَكم هذهِ الأَشْياءَ لِتَذكُروا إِذا أَتَتِ السَّاعَة أَنِّي قلتُها لَكم. ولم أَقُلْها لَكم مُنذُ البَدْءِ لِأَنِّي كُنتُ معَكم": ان عبارة " أَتَتِ السَّاعَة" تشير الى الساعة التي فيها يضطهدونكم، أي الزمن الذي يستطيع فيه الذين لا يعرفون يسوع ولا الله ان يستخدموا وسائل العنف الظالمة كما ورد في الكتاب المقدس "لكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!" (لوقا 22: 53). اما عبارة "أَنِّي قلتُها لَكم" فتشير الى ان التلاميذ لم يفهموا أحداث حياة يسوع وتعاليمه في الارض فهما تاما الاَّ في ضوء قيامته كما ورد في الكتاب المقدس "فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع" (يوحنا 2: 22).

5 "أَمَّا الآنَ، فإِنِّي ذاهِبٌ إِلى الَّذي أَرسَلَني وما مِن أَحَدٍ مِنكُم يسأَلُني: إِلى أَينَ تَذهَب؟ 6 لا بل مَلأَ الحُزنُ قُلوبَكم لأَنِّي قُلتُ لَكم هذهِ الأَشياء. 7 غَيرَ أَنِّي أَقولُ لَكُمُ الحَقّ: إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أَمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم": بما ان يسوع "ذاهب"، حزن التلاميذ. وحتى يزول الحزن، عليهم ان يفهموا المعنى العميق لهذا الذهاب. فهذا الذهاب الذي هو الموت والقيامة، يتيح ليسوع ان يعود اليهم بشكل آخر ويرسل روحه القدوس. لأنه لو لم يرجع يسوع الى الآب لما جاء الروح القدس، وكان وجوده على الارض محدوداً بمكان واحد وفي زمان واحد. أما ذهابه فمعناه ان تواجده في كل العالم وفي كل الازمنة من خلال الروح القدس.

8 "وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة": مفهوم "الدَّينونَة: يشير الى انه كان من شأن الحكم على يسوع وتنفيذه الجائر ان يظهر لأعين الناس ظهور الدليل على مكره وخطيئته، ويُظهر في الوقت نفسه ان العالم على حق. لكن تدخل الله قلب الاوضاع رأسا على عقب. لا شك ان يسوع قد مات، ولكن الآب مجّده حين أقامه؛ وبرهن لنا عن عدل قضيته وعن حقه، وأثبت خطيئة العالم والحكم عليه.

9 "أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي": تقوم "خَطيئِة" العالم قبل كل شيء على رفض الإيمان بيسوع وعلى الابتعاد عن النور، فكانت خطيئته كبيرة واستحق العالم الدينونة "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة" (3: 19-21). وعليه فإنَّ عدم الايمان بكلام يسوع يُعد خطيئة.

10 "وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب فلَن تَرَوني": تشير لفظة "البِرّ" الى الحق والعمل بحسب مشيئة الله. وكان طعام يسوع العمل بهذه المشيئة، لذا عاد الى ألاب، كما صرّح يسوع: "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34). فحكم يسوع على العالم بانه لن يعد يراه.

11 "وأَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين": ظنَّ العالم أن يسوع قد أُدين وحُكم عليه بالموت؛ ولكن تشير هذا الآية الى ان يسوع بقيامته هزم روح الشر الذي يسود العالم وحكم عليه حُكما نهائياً كما جاء في الكتاب المقدس "الَيومَ دَينونَةُ هذا العالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العالَمِ إِلى الخارِج" (يوحنا 12: 31).

12 "لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها": تشير عبارة "أَشْياءُ كثيرةٌ" الى ان يسوع لم يقل كل شيء وإن كان قد اخبرهم بكل شيء "لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15) بل يتركه للروح القدس الذي يتابع تعليم الرسل. اما عبارة " لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها" فتشير الى ان عدم مقدرة التلاميذ ان يحتملوا فكرة موت يسوع وتمجيده، فهم بحاجة الى عطية الروح القدس.

13 "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث": تشير لفظة "الحَقِّ" في العهد القديم الى الشريعة كما ورد في سفر المزامير "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ" (مزمور 86: 11). اما عبارة "أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه" فتشير الى هبة الروح القدس التي تُفهم التلاميذ الحق المتجلي في الابن المتجسّد. وكما ان المسيح يستند دائما الى الآب الذي أرسله، كذلك الروح يستند الى الابن، ولن يكون هناك وحي جديد غير الذي كشفه يسوع المسيح. فلا وحي جديد يحمله الروح الى الكنيسة، بل هو الوحي الواحد الذي أُعطي في يسوع المسيح وما زال الروح يوصله الى المؤمنين. واما عبارة "يُخبِرُكم بِما سيَحدُث" فتشير الى ان الروح القدس يخبركم كيف نتعامل مع زمن النهاية الذي يبدأ في صلب يسوع وقيامته ويمتد الى انقضاء الدهر.

14 "سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه 15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم": تشير عبارة "سيُمَجِّدُني" الى ان الروح القدس يُمجّد المسيح بقدر ما يُهدي التلاميذ تدريجيا الى معرفة الحقيقة المتجلية فيه، وبالتالي ينجز عمله القائم على تمجيد الآب او كشفه. وهكذا تظهر وحدة الوحي التي لا تُنقض. اما عبارة "يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" فتشير الى الوحي الواحد. نقله يسوع، والروح ينقله أيضا. كل شيء ينطلق من الآب في الابن بوساطة الروح القدس. هو عمل ثالوثي واحد.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

بعد دراسة وقائع النص (يوحنا 15: 26-27 و 16: 12-15) يمكن ان نشدد على نقطتين: مهمة الروح القدس وحلوله يوم العنصرة

أ‌) مهمة الروح القدس (يوحنا 15: 26- 27)

لفظة "روح" ترجمة للفظة العبرية "רוּחַ" ومعناها الأول نفس، هواء، ريح. اما روح وقدس فهما صفتان الهيتان يشترك فيها الأقانيم الثلاثة. وبجمع هاتين اللفظتين يدل الكتاب المقدس والليتورجيا واللاهوت على اقنوم الروح القدس. وعليه فإن "الروح القدس" اسم علم من نعبده ونمجده مع الاب والابن كما جاء في توصيات المسيح للرسل "وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19). وان انجيل يوحنا يتكلّم عن الروح على أنه شخص يتميّز عن الآب والابن ولكنه، مع الآب والابن، يسكن في المؤمنين ويعمل فيهم (يوحنا 14:16 -19). ويشير الكتاب المقدس الي الى الروح القدس برموز كثيرة واهمها، الماء، (1 قورنتس 12: 13) والنار (لوقا 3: 16)، والغمام (لوقا 9: 35)، والريح، تنتمي هذه الرموز إلى عالم الطبيعة. إنها تشير خاصة إلى حضور وإلى نمو لا يقاوم، متجهاً دوماً نحو العمق. اما عمل الروح القدس فينطلق دائماً من الباطن، ونتعرّف عليه أيضاً من الباطن: "أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17). ويستخدم يسوع هنا لقبين للروح القدس. المؤيد وروح الحق.

المؤيد

عندما يعلن يسوع مجيء الروح القدس يُسميه المؤيد وباللغة اليونانية البرقليط (παράκλητος)، اي المحامي او المعزّي. وتحمل كلمة "المؤيد" في طياتها عمل العون والتشجيع. ويوحي الينا هذه اللقب طبيعة المعركة، إذ سيأتي الرب ليدافع عن أحبائه. الانسان هو دوما مُهدد ومُعرض لمجابهة الشر والشقاء وإبليس: اي الخطيئة والمعاناة والشيطان. ويعي يسوع هذه الامور ويأخذ على عاتقه الدفاع عن الانسان كي يُخلصه من براثن الخطيئة والموت والشيطان. الروح القدس يحلّ محلّ المسيح بعد قيامته ليساعد التلاميذ (يوحنا 14:26)، ليجعلهم يفهمون الواقع العميق لعمل المسيح، وليكشف لهم معنى هذا الزمن السريّ الذي يعيشونه: زمن حضور جديد للربّ، زمن اتحاد جديد معه(يوحنا 16:13-15) وفهم متجدّد لكلماته (يوحنا 14:26). إذ يرسل لنا مؤيدا اي روحه.

ومهمة المؤيد موجّهة نحو القضايا الكبرى : الخطيئة والبِر والدينونة. ان قوته تفضح الخطيئة وتكشف طبيعتها الحقيقية في صورة عدم إيمان كما ورد في الكتاب "أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي" (يوحنا 15: 9). وعليه فإن الروح القدس قدّم البرهان للعالم على الخطيئة وإقناعه بخطيئته. والمؤيد سيزكي بر المسيح. ان بر المسيح سيزكيه قبول الآب اياه كما جاء في قول يسوع "وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب" (يوحنا 15: 10). فالروح القدس اظهر إمكانية الحصول على بر الله لأي أنسان يؤمن به. "أَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين" (يوحنا 15 :11) إذ أن قيامة المسيح هي الضمان لدحر رئيس هذا العالم. فالروح القدس أظهر دينونة المسيح للشيطان. فعندما نعترف بخطايانا يبررنا الله، وينقذنا من دينونة خطايانا.

روح الحق

ها هو يسوع يُطلق على الروح القدس بلقب آخر "بروح الحق". روح الحق يشير الى عمل التعليم والإنارة والتذكير الذي يقوم به الروح. لا يفهم التلاميذ كل الحقائق التي تفوه بها يسوع. فروح الحق يرشد التلاميذ الى الحق كله كما وعد يسوع "أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه (يوحنا 15: 13) ويشهد لإتمام قصد الله في المستقبل. ويُمجد الابَ بإعلان عمله (يوحنا 15: 14-15).

ان الروح القدس لا يتكلم عن نفسه. انه يعلن ويُفسِّر اهمية الاعمال والحوادث واقوال السيد المسيح. وقد اعلن يسوع ارسالية الروح القدس (يوحنا 16: 1-15) كي يكونوا تلاميذه على استعداد للمواجهة حتى الاستشهاد كراهية العالم وبغضه. إن الروح القدس سيخبرهم بالمستقبل. اي بطبيعة إرساليتهم، وبالمقاومة التي سيوجهونها وبالنتيجة النهائية لجهودهم. ولم يفهم التلاميذ تماما هذه الوعود الى ان جاء الروح القدس بعد موت المسيح وقيامته. حينئذ اعلن الروح القدس للتلاميذ الحقائق التي سجلوها في الاسفار التي شكلت كتاب العهد الجديد.

روح الحق يحررنا وهو القوة الوحيدة القادرة على وقف تيّار الشر وإعاقته والتصدّي له إذ يعطي القوة لتحمل البغض والشر في العالم، والكراهية والعداء الذي يحمله الكثيرون للمسيح وأتباعه. ان هذا الامر معزٍ خاصة لمن يواجهون الاضطهادات. وقد تنبأ يسوع عن صعوبة الحياة المسيحية. ونقرأ في اعمال الرسل عن انواع العذابات التي تعرض اليها بولس الرسول: إذ اضطهدوا واتهموه، وجلدوه، وسجنوه، ونال شهادة الاستشهاد في سبيل ايمانه. يصطدم نشر الانجيل اليوم بنفس الصعوبات والمحاولات التي تسعى الى خنقه. فالمسيحي هو عرضة للشك والاتهام. فهو بحاحة الى الروح القدس، المؤيد. وكلما ازددنا تعطشا للحق، ازددنا شهادة له. وحتى يُصبح الانسان شاهدا عليه ان يكون مع المسيح. يعني ان يعرف الآب وان يعرف الابن. هذه هو الشرط الاساسي كي يصبح الإنسان شاهداً.

روح قدس:

يأتي الروح من الله ويوجه نحو الله فهو روح قدس ويمنح القداسة. إذ يقدس الانسان في اتجاهات ثلاثة:

1) الخلاص، يقيم روحُ الله رسل . فنرى صيادي السمك يتحولون فجأة الى صيادي بشر. فيصبحون لا أهلآ للإتيان بأعمال خارقة في الجرأة والقوة فقط بل يتمتعون أيضأ بشخصية جديدة تمكنهم من القيام بدور قيادي وإتمام رسالة الخلاص. ولا ينزل الروح فقط، بل يستقر (إشعيا 11: 2)، وفيه سوف يفجر كل مواهبه: "حكمة وفهم" (خروج 35: 31) و"مشورة وقوة" و"معرفة ومخافة الله"، وستكون هذه المواهب فاتحاً لعهد قداسة وخلاص(إشعيا 11: 9). وإن كانت الكلمة "تنمو وتنتشر" في الجماعة المسيحية الاولى (اعمال الرسل 6: 7)، فترجع القوة الداخلية لهذا الانطلاق إلى الروح (اعمال الرسل 13: 52).

2) الشهادة: كما أن يسوع قد شهد لأبيه بكل حياته (يوحنا 5: 41)، كذلك أتباعه عليهم أن يؤدوا الشهادة للرب (يوحنا 15: 27). طالما كان يسوع يعيش بينهم، لم يخشوا شيئاً، فكان هو بالنسبة اليهم البرقليط الحاضر دائماً للدفاع عنهم وانقاذهم من مضايقهم (يوحنا 17: 32). أما بعد مضيّه، فإن الروح سوف يحلّ محله، ليكون لهم البرقليط (يوحنا 14: 16). وإذ يتميز الروح القدس عن يسوع، إلاّ أنه لن يتكلم باسمه الخاص، وإنما دائماً عن يسوع الذي لا ينفصل عنه والذي "سوف يمجده". (يوحنا 16: 13-14). كذلك سوف يذكّر التلاميذ بأعمال السميح وأقواله، ويعطيهم نعمة فهمها (يوحنا 14: 26)، وسوف يسبغ عليهم القوة حتى يواجهوا العالم باسم يسوع ويشهدون لقدرة لله ويكتشفوا معنى موته، وليؤدّوا شهادة السر الإلهي الذي تحقق خلال هذا الحادث ، إذ فيه إدانة الخطيئة، وهزيمة إبليس، وانتصار بر الله (16: 8-11).

3) التقديس: الروح يقدّس (2 قورنتس 1: 22)، لأنه روح ابنه القدوس. ويقوم عمل الروح في تقريبنا إلى الله، ووضعنا في صلة حيَّة معه وفي إدخالنا إلى أعماقه المقدسة. وهو يكفل للمؤمن التبنّي الالهي وافتداء الجسد الذي كان عبدًا للخطيئة (رؤيا 8:20-22). وهكذا يُصبح الجسد روحيًا بالقيامة (1قورنتس 15:44)، فالروح القدس الذي يُحيي ويقدّس، يتّحد اتحادًا حميمًا بالمسيح بحيث يقول بولس: نتقدّس في المسيح. أو: نتقدّس في الروح القدس (رومة 15:16). فهبة الروح القدس هي حضور مجد الرب فينا. الذي يحولنا إلى صورته. لذلك فإن بولس لا يفصل ما بين المسيح والروح، ما بين الحياة "في المسيح" والحياة "في الروح". الحياة للمسيحي "هي المسيح" (غلاطية 2، 20). فمن يكون "في يسوع المسيح" (رومة 8: 1) يسلك في سبيل "الروح" (رومة 8:5). ويدعونا الروح إلى محاربة الجسد "فإِذا كُنَّا نَحْيا حَياةَ الرُّوح، فلْنَسِرْ أَيضًا سيرَةَ الرُّوح " (غلاطية 5: 25،). ولا نحزن الروح بخطايانا كما يوصي بولس الرسول "ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ الَّذي به خُتِمتُم لِيَومِ الفِداء."( أفسس 5: 18).

واجمل مثال على تلك القداسة هي القديسة مريم بوادري كما عرّفها البابا فرنسيس يوم اعلان قديسة فقال :"اختبرتْ بشكل قويّ الأخت مريم بواردي، المتواضعة والأُميّة المحبة الأزليّة بين الآب والابن والتي تفيض فينا بواسطة الروح القدس (رومة 5:5) فعرفت أن تقدم نصائح وشروحات لاهوتيّة بوضوح فائق، كثمرة للحوار المستمرّ مع الروح القدس. لقد جعلتها الطاعة للروح القدس أيضًا أداة لقاء وشركة مع العالم المسلم".

ب‌) حلول روح القدس في العنصرة

يصف القديس لوقا أحد العنصرة في سفر اعمال الرسل (2: 1- 13) مبيّنا أنَّ العنصرة المسيحية تختلف عن العنصرة اليهودية بمضمونها وعلاماتها ورسالتها.

مضمون العنصرة:

"لَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون": كان اليهود يحتفلون بعد الفصح بخمسين يوماً بعيد العنصرة، عيد الاسابيع او عيد الحصاد. وهو احد الاعياد السنوية الثلاثة الكبرى عند اليهود (الاحبار 23/ 16). وهو العيد السنوي ذكرى نزول الشريعة على جيل سيناء والعهد بين الله واسرائيل. في حين العنصرة المسيحية كان الرب يسوع قد صلب في الفصح، وصعد الى السموات بعد أربعين يوما، وبعد عشرة ايام من صعوده أي بعد خمسين يوما من الفصح حلَّ الروح القدس على التلاميذ. ونجد أيضاً في العنصرة المسيحية عهداً جديداً لا مع شعب واحد كما هو في العنصرة اليهودية، بل مع البشرية كلها من الاقطار الاربعة. ورأى لوقا في تجمع المسيحيين قلبا واحد في يوم العنصرة صورة تجمع الكنيسة بعكس برج بابل حيث تشتت البشرية (تكوين 11/1). كما رأى لوا الانجيلي في "امتلاء جميع اعضاء الجماعة المسيحية الاولى مِنَ الرُّوحِ القُدس"، تتميماً لنبوءة يوئيل عن فيض الروح القدس على الجميع بدون تمييز (يوئيل3: 2).

علامات العنصرة:

اعلن الله عن حلول الروح القدس بثلاث علامات منظورة:

العلامة الاولى "دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة" اي صوت من هبوب الريح "مَلأَ جَوانِبَ البَيتِ" وهذا الصوت يذكرنا في الرعد لدى تجلي الله لموسى في جبل سيناء (الخروج 19: 16) والبيت هو مكان اجتماع وصلاة لجماعة الرسل. قد يعمل الله في حياتنا بطرق صاخبة كما في يوم العنصرة او قد يتحدث الينا بهمس هادئ كما حدث مع ايليا النبي (1 ملوك 19/ 11).

والعلامة الثانية "ظَهَرَت أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ": فاللسان يدلُّ على الكلام، والنار تدل على الله. وهكذا صار كلامُ الرسل كلامَ الله بما فيه من قوة تحرق خبث الانسان وتشعل في قلبه محبة للآخرين. وكما على جبل سيناء أكد الله على صدق وصلاحية شريعة العهد بنار من السماء (خروج 19/ 16)، هكذا في يوم العنصرة أكَّد الله على صدق وصلاحية خدمة الروح القدس بالسنة النار. وعلى جبل سيناء نزلت النار من السماء على موضع واحد، اما في اليوم الخمسين فنزلت ألسنة النار على مؤمنين كثيرين، رمزاً الى ان حضور الله في حياة الانسان صار متاحاً لكل من يؤمن به بدون تمييز.

وأما العلامة الثالثة فهي "التكلم بلغات غَيرِ لُغَتِهِم" تعني ان البشارة وصلت الى جميع الشعوب في لغتهم. والامم الاثني عشرة المذكورة في النص ترمز الى المعمورة. وهذا هو البعد الشمولي لرسالة الكنيسة. ليست المسيحية مقصورة على جنس دون آخر او جماعة من الناس دون أخرى. فالمسيح يقدّم الخلاص لكل إنسان بغض النظر عن جنسيته او هويته. وهذا ما تفعله الكنيسة اليوم حين تنقل الكتاب المقدس الى لغات العالم كله.

رسالة العنصرة:

ما العنصرة إلا ثمرة قيامة المسيح وصعوده. بالعنصرة يقوم المسيح بدور ربٍ يقدّس ويؤيد الكنيسة بروحه. والكنيسة الواحدة المجتمعة بالروح القدس هي التي تتكلم بكل اللغات (رسل 2/33). ويرسل السيد المسيح الروح القدس لرسله كي يكونوا شهوداً له إلى أقاصي الأرض انطلاقا من اورشليم. وعليه عاد كل واحد الذي حلّ عليه الروح الى موطنه حاملا أخبار الخلاص السارة. وهكذا أعدَّ الله السبيل لانتشار الإنجيل في قلب العالم وإعادة وحدة البشرية التي تفككت في برج بابل (تكوين 11/1-9) من خلال رسالة الكنيسة التي تتابع رسالة مؤسسها يسوع المسيح الى جميع المعمورة.

 

الأب د. لويس حزبون