الرئيسية

يقول الرب " توبوا إليَ بكل قلوبكم بالصوم والبكاء والندب، مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" فتوبوا إلى الرب. الرب حنون رحيم، بطيء عن الغضب، كثير الرحمة، نادم على السوء" يوئيل 2: 12-13

 

صلاة،صوم وصدقة

 
 

زمن الصوم الكبير مسيرة روحية نستعد خلالها للعبور مع فصح المسيح إلى حياة جديدة، عبر توبة القلب وثمارها. فلما بدأ يوحنا المعمدان رسالته في إعداد القلوب والنفوس للمسيح الآتي، ممارسا معمودية الماء للتوبة، قال للآتين إليه طالبين هذه المعمودية: “أثمروا ثمرا يدل على توبتكم” (متى 3: 8). هذه الثمار هي أربع: السَير في نور الحقيقة، والصلاة، والصوم، والصدقة. والتوبة وثمارها تجعل من الصوم الكبير زمنا مقبولا لدى الله، يجددنا مع الطبيعة التي، من بعد أن تعرت من عتيقها في زمن الشتاء، تلبس ثوب الربيع من أجل مواسم العطاء.

الصوم الكبير هو زمن الإصغاء لصوت الله الذي يكلمنا بشخص المسيح وتعليمه وأفعاله وآياته. يقول عنه القديس برنردوسانه “الكلمة المسموعة بالأذن، والمرئية بالعين، والملموسة باليد”. كلمةُ الله تنبع من قلبه، وتريد الوصول إلى قلب الإنسان، كما قال لحزقيال النبي: “كلماتي التي أقولُها لك، إحفظْها في قلبك” (حز 3: 10). لذا، يشترط الرب يسوع، من أجل قبولها وفعلها فينا، ثلاثة: سماعها بالقلب وليس فقط بالأذن والعقل؛وحفظها كالخميرة في العجين والزرع في الأرض الطيبة؛ والعمل بها بأفعال وأقوال ومبادرات تعكستفاعلها مع كياننا الداخلي (راجع لو8: 19-21، 11: 28).

أجل، كلمة الله كالمطر والثلج ، فلا يرجعان إلى السماء، بل يرويان الأرض فتُنبِت زرعا وأُكُلا، على ما قال الله بلسان أشعيا: “كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليَ فارغة، بل تتمم ما شئتُ، وتنجح في ما أرسلتُها له (أش 55: 10-11).وهي كسيف ذي حدَين (رؤيا 1: 16). إنها سيف الروح (افسس6: 17) الذي حيث يدخل يقطع كالمنجل في الأدغال، وكالفأس على أصل الشجرة، يقطع كل يباس. بهذا المعنى يقول لنا الرب يسوع: “أنتم أنقياء بالكلمة التي قلتُها لكم” (يو15: 3).

في ضوء كل هذا، يدعونا يعقوب الرسول “لعدم الاكتفاء بسماع كلام الله من دون العمل به، لئلا نخدع نفوسنا. فمَن يسمع الكلام ولا يعمل به يشبه الناظر في المرآة صورة وجهه، فهو ينظر نفسه ويمضي، ثم ينسى في الحال كيف كان” (يعقوب1: 22-24).

الصلاة
الصلاة هي ثمرة سماع كلام الله، إذ نصوغ صلاتنا من كلماته. فمَن لا يسمع كلام الله لا يعرف كيف يصلي. الصلاة هي ارتفاع العقل والقلب والفكر إلى الله، ونسيان كل الباقي. ألسنا نفعل كذلك عندما نخاطب شخصية بارزة؟ وعليه، يحتاج المصلي إلى شيء من العزلة والاختلاء، لتسهيل صلاته، والخروج من ضجيج محيطه وانشغالاته وهمومه. فكم كان الرب يسوع يعتزل في البراري للصلاة على انفراد (لو5: 16). يقول الروح على لسان النبي هوشع: “أقتادها إلى البرية، وأخاطب قلبها” (هوشع2: 16). أليس المصباح يضيء في الخلوة وينطفئ في الهواء؟ (الطوباوي ابونا يعقوب).

الصوم الكبير، بما يحتوي من رياضات روحية وأصوام وإماتات وتوبة، هو زمن الصلاة بامتياز. فلا تكون صلاتنا من الشفاه، فيما الفكر والقلب بعيدان عن الله (راجع متى 6: 5-6). ولا تكون بملل، فالرب يوصينا: “إسهروا وصلوا، لئلا تقعوا في التجربة” (متى26: 41). والصلاة عن إيمان تنال مبتغاها. ولهذا حثنا الرب عليها: “إسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم. فمَن يسأل ينل، ومَن يطلب يجد، ومَن يقرع يُفتح له” (متى7: 7-8). يقول القديس أغسطينوسان الرب يحثنا على الصلاة، “لأنه يصلي معنا كرأس، ويستجيب لنا كإله”.

يظن البعض أن الصلاة مضيعة للوقت! على العكس، فالقديسة مونيكا نالت ارتداد ابنها أغسطينوس بدموعها وصلواتها لسنين. فكان أعظم القديسين واللاهوتيِين. وهو القائل: “الصلاة هي مفتاح كل كنوز السماء”. بكلمتين من القلب ممزوجتَين بالتوبة، نال لص اليمين الخلاص: “أذكرْني يا سيدي متى صرتَ في ملكوتك”. فكان جواب الرب: “اليوم، تكون معي في الفردوس!” (لو 23: 42- 43). العشار المصلي بانسحاق قلب، عند باب الهيكل: “اللهمَ إرحمني أنا الخاطئ”، عاد إلى بيته مبررا دون الفريسي (لو18: 14).

لاقى القديس لويس التاسع، ملك فرنسا، انتقادا لأنه كان يُخصص وقتا طويلا للصلاة، وبذلك يهمل شؤون المملكة، فأجاب القديس: “لو خصصت وقت الصلاة للصيد واللهو، مثلما يفعل قوم من البلاط، لما كان انتقدني أحد!”.

الصوم

الصوم، بما يحتوي عليه من انقطاع عن الطعام وإماتات وتقشفات، إنما هو تعبيرٌ خارجي عن توبة القلب، وإلا فقد قيمته الشاملة. فالله على لسان يوئيل النبي نادى: “إرجعوا إليَ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والندامة. مزِقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم (يوئيل 2: 12-13) ؟ وبلسان أشعيا: “إغتسلوا وتطهروا، وأزيلوا شر أعمالكم من أمام عيني، وكفوا عن الإساءة” (أش1: 16).

الصوم فريضة إلهية تتجذر في الكتب المقدسة. إنه موقف تواضع وانسحاق أمام الله، تكفيرا وتطهيرا من الخطايا (أحبار 16: 29- 31)، وانفتاح القلب للنور الإلهي (دانيال 10: 2)، وترقب النعمة الإلهية الضرورية لإتمام الرسالة(أعمال 13: 2-3)، وتسليم للآب على مثال يسوع بثقة كاملة (متى4: 1-4)، ووضع الذات أمام الله بإيمان وقبول إرادته وعمله، مثل موسى (خروج34: 38)، وإيليا (1 ملوك 19: 8).

كتب قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة الصوم الكبير (2018): “الصوم ينتزعُ منا العنف ويساعدنا على النموِ الروحي. يجعلنا نختبر معاناة الذين ينقصهم الضروري وأوجاع الجوع اليومية. إنه يمثل أوضاع نفسنا الجائعة إلى الخير، والمتعطِشة للحياة الإلهية. الصوم يجعلنا أكثر انتباها لله وللقريب، ويوقظ فينا إرادة الطاعة للإله الذي هو وحده يُشبع جوعنا”.

الصَدقة

ترتبط الصدقة ارتباطا وثيقا بالصوم. نحرم ذواتنا من مأكل ومشرب لكي نساعد الفقير والمحتاج بدلا من ذواتنا. هذه هي حكمة الصوم والصدقة الضاربة جذورها في الكتب المقدسة. فالصوم الذي يرتضيه الله، وقد أعلنه بلسان أشعيا النبي إنما هو “كسر خبزك للجائع، وإدخال البائسين بيتك، وكسوة العريان، وعدم إهمال مَن هم في حاجة (أش 58: 7)، فضلا عن أعمال الرحمة الأخرى من مثل: “حل قيود الشر، وفك ربط النير، وإطلاق المسحوقين أحرارا” (أش 58: 6).

نقرأ في رسالة البابا فرنسيس لصوم هذه السنة ان “الصدقة تحرِرني من الجشع، وتساعدني على اكتشاف الآخر أخا لي. فما أمتلكُ ليس أبدا مُلكا لي وحدي، بل يقتضي مني أن أتقاسمه مع المحتاج، كما فعل الرسل والمؤمنون في الكنيسة الناشئة” (راجع أعمال الرسل 2: 44-45).
ويضيف البابا فرنسيس: “كل صدقة هي مناسبة للتعاون مع عناية الله بأبنائه. إذا كان الله يحتاجني اليوم ليساعد أخا لي، فكيف لا يهتم غدا بحاجاتي، هو الذي لا ينغلب في السخاء!”