English

سجل الزوار

 

اتصلوا بنا

الرئيسية

يقول الرب " توبوا إليَ بكل قلوبكم بالصوم والبكاء والندب، مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" فتوبوا إلى الرب. الرب حنون رحيم، بطيء عن الغضب، كثير الرحمة، نادم على السوء" يوئيل 2: 12-13

 

خميس الأسرار

 
 
     
 

على هضبة جبل صهيون في القدس الغربية تقع صالة علّية صهيون الّتي أقام فيها المسيح عشاء الوداع الآخير مع رسله وهي اليوم تحت حراسة الرهبان الفرنسيسكان الّذين يجهدون نفوسهم خلال السنة وبالأخص في هذه الأسابيع لحجز أوقات قداديس متواصلة للفرق السياحيّة التي تأتي من جميع أنحاء العالم يرافقها أكثر الأحيان كهنة من بلدانهم. "اشتهيت شهوة شديدة، قال المسيح لتلاميذه أن أكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم"(لو 15:22).

في هذا المساء نعود بالتاريخ إلى أكثر من 2000 سنة إلى الوراء ونحتفل بأقدس ثلاثة أيام في تاريخ ديانتنا. اليوم الأوّل منها يحمل اسم خميس الأسرار. فيه نتذكّر ما فعل يسوع لكنيسته ولنا ولجميع العالم في آخر ساعات حياته بيننا. لمّا قربت ساعة انتقاله من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحبّ خاصته الّذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقصى حدوده. أظهر محبّته بشكل لا يخطر على بال إنسان، حيث أخذ خبزا وخمرا، أهمّ مكوّنات الغذاء اليومي للإنسان، وباركهما حتّى يبقيا نبع ومبعث الحياة الجسديّة فينا. والعجيب في الأمر أنّ هذه المباركة من فمه ويديه، أحدثت أكبر أعجوبة دائمة في كنيسته، وهي تثبيت وجوده، جسديّا وروحيّا بيننا "خذوا فكلوا هذا هو جسدي، خذوا فاشربوا هذه الكأس هي كأس دمي للعهد الجديد الّذي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين. إصنعوا هذا لذكري"! ثلاث جمل هي من أروع العبارات في الكتاب المقدّس، لا تمرّ ثانية من السّاعة حتّى تتكرّر مرات المرّات في العالم على فم الكهنة!.

ففي الّليلة ألّتي أسلم فيها أغنى المسيح الكنيسة بتأسيس أكبر سرّي حبّه لنا: أعني سرّ الكهنوت وسرّ المناولة. وهما أكبر بل قمّة هداياه، إذ بهما سيبقى بيننا وإن غاب عن أعيننا "ها أنا معكم كل الأيام وإلى منتهى الّدهر". لا يوجد مؤسّس دين آخر اهتم بمستقبل دبانته مثل السّيد المسيح. فهو وضع الكنيسة بين يدي تلآميذه الّذين رفعهم إلى درج الكهنوت أي أن يحلّوا محلّه بأعمالهم وأقوالهم حتى ينشروا تعاليمه بشكل متواصل. فهم ذراع المسيح المطوّلة والعاملة في هذا العالم.

فما هي الكنيسة بدون وجود الكهنة فيها؟ لقد حاولت الشيوعيّة في بداية ثورتها على الّدين والكنيسة عام 1917 أن تضع حدّا لعمل وفعالية الكهنة في العالم. فإلى جانب تدمير الكنائس، مكان عملهم الرئيسي، قاموا بتعطيل فعاليّة الكهنة بالذّات بشتّى الطرق: بتهديد البعض إن تابعوا عملهم، وبإرسال الكثيرين إلى معسكرات الأشغال الشّاقة مدى الحياة وإلى ذبح ما لا يحصى منهم لكنّهم لم يقدروا أن يقتلوا الرّوح الدّينيّة في العالم لأنّ الكهنة ظلّوا سائرين في مهمّة التبشير، ولو سرّا لا علنا، فلم تستطع الشيوعيّة أن تقضي على الّدين ومكوّناته الأساسيّة. هذا وقد فهم ستالين نفسه مؤسّس الشيوعيّة أنّه لا يمكن جرّ البشر إلى الإلحاد والّلادينيّة، مثلما أراد من مبدئه المتشدّد إلاّ بالقضاء على البابا وعلى جميع معاونيه الكهنة في العالم، كما قال. أما المسيح فقد خوّل تلاميذه سلطة التبشير ونشر هذه الديانة قائلا لهم "إذهبوا وعلّموا الناس ما أوصيتكم به. وها أنا مرسلكم مثل الخراف بين الذّئاب، لكن لا تخافوا وكونوا على يقين: إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. وهكذا كان. لقد مات ستالين وأتباعه الّذين أعلنوا موت الّله. والآن؟ الآن ماتت الشيوعيّة وأما الّله فبقي حيّا وكنيسته بقيت واقفة صامدة، رغم الرّياح والعواصف الّتي تلاعبت بها، إذ أنّها كالبيت المبني على الصخر لم تتزعزع. وهي كذلك كما قال المسيح لبطرس: "أنت الصّفاة وعلى هذه الصّفاة سأبني كنيستي".

اليوم هو يوم الكاهن. ففي هذا اليوم دعونا نقول شاكرين: إنّه ما زال في العالم كهنة فستبقى الكنيسة حيّة قويّة وسيبقى روح رسالة المسيح يتغلغل في القلوب ويغيّرها إلى أن يتم الإنتصار الكامل لديانة المسيح.

والآن هذا السؤال: ما هو الكهنوت وما هو الكاهن؟ الجواب من الكتاب، أعني من بولس الرسول: "الكاهن هو ممثّل المسيح في العالم"، كما السفير هو ممثّل مملكته في البلد الّتي يرسل إليها. نعم في الليلة الأخيرة، وكان يسوع يعلم أن ساعة انتقاله من هذا العالم قد اقتربت، لم يرض ولم يقبل أن يتركنا نكافح لوحدنا، كأطفال يتامى لا معيل لهم. لقد أحبّنا إلى النّهاية هو الذي قال: إن نعيمي مع بني البشر. لذا جاءته الفكرة العبقريّة أن يبقى معنا بنفسه، أن يوجد لنفسه "أنا ثانية" أن يهدي العالم نفسه بالذّات. فأوجد الكهنوت بحيث جعل من تلاميذه وأتباعهم، كما يقول اللاهوتيون، مسيحا آخر. فهذا هو إذن الكاهن: مسيح آخر مرئيّ منظور في العالم، أيّا كان شكله أو جنسيته. دعوة المسيح هي الّتي تجعله مسيحا حيّا آخر.

في هذا المساء أسّس المسيح إلى جانب سرّ الكهنوت، السّر المكمّل، وهو سرّ القربان المقدّس المنبثق من سر الكهنوت: خذوا كلوا! هذا هو جسدي!. ثمّ أضاف: إصنعوا هذا لذكري!، معلنا بذلك أنّه إلى جانب التّيشير، هناك رابط آخر يقوّي التّقارب بين جميع السامعين وإيّاه وهو الإحتفال بل لنقل الإلتفاف الجماعي للصلاة وتجديد حتى لا نقول تكرار وجوده بيننا بتناول جسده، تماما كما فعل في ساعة الوداع هذه، التي أسّس فيها سرّ الوحدة المسيحيّة، الّتي نستطيع تسميتها أكبر العجائب الّتي صتعها بحياته والمذكور منها 42 أعجوبة. نعم تحت شكلي الخبز والخمر يبقى حاضرا بيننا وإلى الأبد. هو غذاء روحنا ونفوسنا، الذي لا نقدر أن نعيش بدونه: "كل واشرب فإن الطريق طويل" قال الملاك لإيليا حينما طلب منه أن يرجع من الأردن إلى جبل الكرمل. إذن هو صار خبز الحياة "بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئا". ويعلّق القدّيس أغسطين على ذلك قائلا: نعم بدون المسيح لا نستطيع أن نعمل شيئا صالحا وأما معه فنستطيع عمل كل خير.

لقد اختار المسيح علامتي الخبز والخمر، المأكول اليومي الّذي لا يستغني عنه البشر في كل أنحاء العالم للبقاء على الحياة، والموجودين في كل أنحاء العالم أيضا. فمن السّهل إذن الحصول عليهما (السؤال :خبز مخمّر أم اعتيادي؟ فهذه اختلافات لاهوتيّة لا طائل منها للمؤمن البسيط)، فأصبح من السّهل تناول جسده وشرب دمه في كل بقعة على الأرض، حيث تقام الذّبيحة ليل نهار في جميع أنحاء العالم ونجده تحت شكلي الخبز والخمر في كل بقعة في بيوت القربان الموجودة في كل كنيسة والّتي تدلّ على وجوده معنا في كل مكان. وجود القربان في الكنيسة حتّى بعد القدّاس يرمز إليه ضوء دائم بالقرب من الهيكل وهو علامة الفرق بين الكنيسة الكاثوليكيّة وباقي الكنائس خاصة البروتستنتية منها.

إن كلّ قدّاس هو تجديد لموت المسيح حبّا بنا على الصليب وتذكير لوجوده الآمنظور تحت شكلي الخبز والخمر. وكل مرّة نأكل من هذا الخبز أو نشرب من هذه الخمر نخبر بموته إلى أن يأتي. إن المناولة الفعليّة تقرّبنا للمسيح بل تجعل المسيح قريبا منّا، يعيش معنا وفينا، مثلما قال بولس: لست أنا الحي إنّما هو الحيّ فيّ. مع المسيح تقوى حياة النعمة فينا الّتي تتقوّي ضعفنا في مقاومة الشّر المتأصّل فينا وأن ننتصر على كلّ العقبات في مسيرتنا إلى الوصول إلى جبل الرّب، كما قال الملاك للنّبي إيليّا : قم فكل واشرب، فإن الطريق طويل ووعر إلى جبل الرّب.

فلنشكر المسيح اليوم بشكل خاص على محبّته لنا وعلى وجوده الدائم بيننا بممثليه الكهنة وبجسده ودمه في القربان.