سجل الزوار

 اضفنا للمفضلة

اتصلوا بنا

الرئيسية

 

عـيد الثالوث الأقدس

 

إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والإبن والرّوح القدس (متى 28: 16-20)

ليس من سؤال ديني يتكرّر أكثر من السّؤال: من هو الّله؟ بل هو أوّل سؤال على طريق الإيمان. فكيف نُجيب السّائلين؟ باختصار المسيحي واليهودي والمسلم يلجأ كلٌّ منهم لإعطاء الجواب من كتابه المقدّس. عِلْماً بأنّهم على اقتناع أنّ جواب الكتاب لا هو بالهيّن ولا هو بالوافي، إذ إنَّ الّله أكبر من أن نُعبِّر عنه بكلمات كتبها بشر، ولو عن طريق الوحي.

هذه الدّيانات الثّلاثة تعترف كلُّها بوحدانيّة الّله. "الّله واحد" يقول اليهودي ويقف عند هذا التّعريف. الّله واحد، يقول أيضاً المسلم ويقف عند هذا التّعريف. أمّا المسيحي فيقول "الّله واحد"، ويُضيف رأساً المُثلّث الأقانيم: الآب والإبن والرّوح القدس. الدّيانات تلتقي مع بعضها على نقاط عديدة وأما على هذه النّقطة فلن تلتقي ولن تتّفِق، ما دامت الدّيانتان اليهودية والإسلاميّة لا تعترفان بالوحي وبمجيء المسيح. الحوار الدّيني هو الموضوع المرغوب بين هذه الدّيانات. لكن عندما يأتي الحديث عن المسيح، فيسحب كلٌّ منهما عرّاضيّة الباب على زميلة ويُغلق الباب: لا حوار!.

هذا ما شهده العالم بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثّاني (962-1965) حيث تكلّمت الكنيسة لأوّل مرّة إيجابيّا عن الدّيانات الأخرى، ومنها الإسلام، ونادت بالحوار بينها. فما أن انتهت جلسات المجمع حتّى تحمّس علماءُ لاهوتيّون من الكنيسة الكاثوليكيّة وعرضوا الحوار على علماءِ الدّيانة الإسلاميّة، وأسّس كلُّ طرف لجنة إختصاصيّين من جهته للحوار بينهم. وبعد تحضير مُنمّقٍ مدروسٍ من كلِّ جهة دام خمس سنوات من 1967-1972 فتحت بيروت قلبها للّجان المُستعِدَّة لبداية الحوار. لكن للأسف انتهى الحوار من أوّل جلساته بالفشل، كما يقول المثل مات الجنين قبل أنْ يولد. والسّبب أنَّ كلَّ لجنة كانت قد حضّرتْ ورقة عمل بسؤالات على الآخر: المسيحيّون طلبوا من المسلمين أن يتركوا محمّد كنبي ومؤسّس ديانة. كذلك اللجنة الإسلاميّة فرضت إنكار يسوع أنّه ابن الّله، فهذا كُفْرٌ، كما يقول القرآن، إذ الّله لا يولد ولا يلد. وهكذا انفضّت الجلسة عن بعضها، كأنَّ شيئاً لم يكن بل توسّعت الهوّة بين الطّرفين، لا للخير العام، بل أقول، وقد أكون مغلوطاً في رأيي: كانت تحضيراً مخفيّا للتّعصّب الدّيني الّذي وصلنا إليه اليوم. إذْ إلى اليوم لم يُتَّفق بعد على أرضيّة لإحياء الحوار الدّيني! الخلاف إذن كبير في قضيّة الإيمان بالّله.

موضوع الثّالوث الأقدس هو موضوع شائك ومُعقّد وغير مقبول في الدّيانات الأخرى. هذا ولا نُنكِر أنّه غير مفهوم حتّى من كثيرين من المؤمِنين، لكنّنا كمسيحيّين نبقى مٌتمسّكين بإيماننا وعقيدتنا بأن الّله واحد في ثلاثة أقانيم وباللغة العامّة في ثلاثة أشخاص، هم الآب والإبن والرّوح القدس، لهم طبيعة إلهيّة خاصّة بهم. ومن يُنكِر ذلك كأنّه يسحب حجر الزّاوية المبنيَّةِ عليه ديانتنا فتتهدّم. وهنا نفهم جدالات الكنيسة الّلاهوتيّة الكبيرة في بداية انتشارها، الّتي قادتها إلى الخلاف الكبير مع الأحزاب الّتي انشقَّت عنها، في تثبيت تعليمها الّلاهوتي لجميع عقائد الدّين والّتي حدّدتها ووضعتها كاملة في صلاة "قانون الإيمان"، والمُرتكزة على تعليم يسوع والتّوراة وتعليم وتبشير وإيمان الرسل والتّقليد. إنتهى وضع عقائد الدّين بموت آخر الرّسل وهو يوحنا الإنجيلي حوالى السّنة المئة بعد يسوع.

وهذا هو مُحتوى هذا العيد الكبير الّذي نحتفل به اليوم والّذي به نختتم الأزمان والأعياد الفصحية في الكنيسة، إذ الأحد القادم نرجع إلى الزّمن الإعتيادي في طقوسنا الكنسيّة أصرّت الكنيسة على التّعليم، أنَّ الّله واحد لكنّه مُثلَّث الأقانيم، رافضة بأن تعتبر يسوع الإبن والرّوح القدس، هما غير مساوِيَيْن للآب بأيِّ شكلٍ من الأشكال، سوى التّسمِية ووقت ظهور كلٍّ من الإبن والرّوح القدس العلني. هنا تكمن نُقطةُ الخلاف بين تعليم وإيمان الكنيسة الأرثوذوكسيَّة وبين تعليم وإيمان الكنيسة. الكاثوليكية. بالإختصار تقول الكنيسة الأرثوذوكسيَّة إن الرّوح القدس أتى من الآب بواسطة الإبن (كأنَّ الإبن غيرُ مساوٍ للآب في كلِّ شيء). بينما الكنيسة الكاثوليكية فتقول، كما هو مذكور في قانون الإيمان: "نؤمن بالرّوح القدس، المُنبثق من الآب والإبن...". هذا هو سرُّ إيمانُنا. والإيمان الّذي لا يحوي على أسرار هو ليس إيمان. كما أن الدّيانة الّتي ليس فيها أسرار، هي ليست ديانةً وإنّما حزب وطني لا يُعمِّر طويلاً بل يزول بزوال قيادتِه وأتباعه. فسرُّ الثّالوث الأقدس هو أكبر سرٍّ في ديانتنا ولا شبيه له في الدِّيانات الأُخرى. هذا السّر هو للاّهوتيّين وليس للمُؤمن البسيط. لكن الإيمان هو القبول بحقائق عالية وللجميع، للاّهوتي كما للعلماني.

الدّيانة يجب أن تحتوي على أسرار إيمانيّة. وليس من الضّروري فهم هذه لأسرار لكن يجب الإيمان بها، كما يقول القديس توما الأكويني. وسرُّ الثّالوث الأقدس هو أكبر أسرار ديانتنا، تُذكِّرنا به الكنيسة كلَّ طالِعِ شمسٍ وغروبِها، بحيث أنّنا نبدأ كلَّ طقوسنا وصلواتنا بتجديد إيماننا بهذا السّرِّ الكبير، راسمين إشارة الصّليب علينا وقائلين: باسم الآب والإبن والرّوح القدس. كلُّ الأسرار والبركات الكنسيّة تتمّ باسم وبشراكة الثّالوث الأقدس في حياتنا. حتّى وإن اسْتَصْعبَ الكثيرون فهم هذا السّر ويقولون هذا حصرم لا نقدر أن نأكله، لكن يكفينا الإيمان يإلهٍ واحد. إننا لا نُنْكِر صعوبة فهم هذا السرّ بالعقل المُجرّد. حتّى أكبر القدّيسين واللآّهوتيّين استصعبوا هم أنفُسهم من فهم فحوى هذا السّر أو شرحه. من لا يذكر القدّيس أغسطين، الّذي كان منهمكاً في فهم هذاى السِّرّ علمياً وإذ لم يُفلح، راح يتنزّه على شاطء البحر فالتقى طفلا يغرف الماء بصدفة صغيرة وينقُلُها إلى جورة قريبة حفرها بنفسه. فسأل أغسطين الولد: ماذا تفعل؟ قال: أريد نقل ماء البحر في هذه الجورة. هذا مُستحيل، قال له أغسطين. فماء البحر أكثر من جورتك. فأجابه الولد: وكيف تريد أن تفهم سرّ الثالوث الأقدس في عقلك الصّغير؟. القدّيس توما الأكويني أكبر لاهوتي في تاريخ الكنيسة بعد بولس الرّسول، قال في آخر حياته: "إنَّ كلَّ ما قلتُ وكتبتُ عن الّله في حياتي هو قشّة. لكنني لا أنسى أنّ القشّة تحمل السُّنبُلَة على رأسها".

نعم نحن نحتفل بأعلى وأسمى عيد في ديانتنا، حيث تُذكِّرُنا الكنيسة بمفاعيل الثّالوث الأقدس في حياتنا وفي العالم. بكلمة تُذكِّرُنا أنَّ الّله الآب هو خالِقُنا، وأن الإله الإبن هو مُخلِّصنا وأن الإله الرّوح القدُس هو رفيق حياتنا وحياة الكنيسة والعالم والتّاريخ حتّى يتمَّ كمالُها. ففي أيِّ ديانةٍ نجد أن إلهها قريب من أتباعها، بل صار واحداً منهم، مات عنهم ليُخلِّصهم وبالتّالي سيُجلسُنا عن يمينه. فيحقُّ لنا أنْ نسجد له ونعبد هذا الإله الحنون بكلِّ تقوى واحترام، له قائلين: المجد لك أيّها الثالوث الأقدس: الآب والإبن والرّوح القدس.