سجل الزوار

 اضفنا للمفضلة

اتصلوا بنا

الرئيسية

 

وجود الله

 

1-البُعد الدّيني للكائن البشريّ
البُعد الدّيني يميّز الكائن البشريّ منذ أوائل وجوده . فبعد زوال الخرافة، المتأتّية أصلاً من الجهل والخطيئة، تُظهِر مختلف التّعابير الدّينيّة الإعتقاد بوجود إله خالق، يتوقّف عليه العالم، ووجودنا الشّخصيّ . فإذاً كان الشِّرك قد رافق حقّاً، غالباً، التّاريخ البشري، فإنّه أيضاً من الصِّحّة بمكان، أنّ البُعد الأعمق للتديّن وللحكمة الفلسفيّة، فتّش عن تبرير جذريّ للعالم وللإنسان، في إله وحيد، أساس للواقع وتتميم لشوقنا للسّعادة . (ر . التّعليم المسيحيّ، رقم 28)[1].

إنّ التّعابير الفنّيّة والفلسفيّة والأدبيّة… إلخ، الموجودة في ثقافة الشّعوب، لها طابع مشترك رغم تنوّعها، ألا وهو التّفكير في الله وفي مواضيع الوجود المركزيّة : الحياة والموت، الخير والشرّ، المصير الأخير ومعنى كلّ شيء[2]. فكما تشهد مظاهر الرّوح هذه، عبر التاريخ، نستطيع القول إنّ الإشارة إلى الله تعود للثّقافة، وتمثّل بُعداً أساسيّاً للمجتمع وللفرد. فالحرّيّة الدّينيّة إذاً تمثّل أوّل الحقوق الأساسيّة، كون التّفتيش عن الله هو أولى الواجبات: البشر جميعهم “مُرغمون بطبيعتهم، ومضطرّون بالواجب الأخلاقيّ، أن يفتّشوا عن الحقيقة، وهي أوّلاً ما يعني الدّين . وهم أيضاً ملزمون بالإلتحاق بالحقيقة ما أن يعرفوها”[3]. إنّ نكران الله ومحاولة إستبعاده من الثّقافة، كما من الحياة الإجتماعيّة والمدنيّة، هما ظاهرتان حديثتان نسبيّاً، ومحصورتان في العالم الّذي يُقال له غربيّاً. فواقع أنّ كبرى الإستجوابات الدّينيّة والوجوديّة لا تتبدّل في الزّمن[4]. تكذّب الفكرة القائلة بأنّ الدّيانة تخصّ مرحلة “طفوليّة” من التاريخ، وهي مكتوب لها التّلاشي مع تقدّم المعرفة.

المسيحيّة تتحمّل مسؤوليّة كلّ ما هناك من خير في البحث وعبادة الله، الظّاهرة تاريخيّاً بالأشكال الدّينيّة. وهي رغم ذلك، تكشف منها المعنى الحقيقيّ، ألا وهو البحث عن الله الحقّ الأوحد، الّذي ظهر في تاريخ الخلاص الحاصل للشّعب الإسرائيليّ، وقد جاء للقائنا بشخص يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد[5].

2-من مخلوقات مادّيّة إلى الله

إنّ العقل البشريّ يستطيع معرفة وجود الله عبر طريق نقطة انطلاقه هي العالم المخلوق. هناك خطّان ممكنان: ذاك الخاصّ بالخلوقات المادّيّة (الطّبيعية) وذاك الخاصّ بالرّوح البشرّي. رغم أنّ هذه المقاربة كان قد تمّ تطويرها بخاصّة من قِبل كتّاب مسيحيّين، فهذان الخطّان قد تمّ عرضهما ودُرِسا من قِبل عدد كبير من الفلاسفة والمفكّرين من ثقافات وحقبات أخرى.

إنّ الطّرق نحو معرفة وجود الله تدعى أيضاً براهين، لكن ليس في المعنى المُعطى لها في الرّياضيّات والعلوم الطبيعيّة، بل كحُجج فلسفيّة متقاربة ومقنعة، تُفهم نوعاً ما بالعمق، حسب التّنشئة المحددّة المأخوذة (ر . التّعليم المسيحيّ، رقم 31).

فالبراهين عن وجود الله لا يمكن أن تُفهم في المعنى نفسه كتلك الخاصّة بالعلوم الإختباريّة، هذا ما يُستنتج بوضوح من واقع أنّ الله لا يمكن أن يكون موضوع معرفة تجريبيّة.

كلّ سبيل نحو وجود الله يبلغ مظهراً ملموساً، بُعداً للحقيقة المطلقة للّه، في الإطار الخاصّ بتفكيره: ” إنطلاقاً من الحركة والتطوّر، من المُحتمَل، من تنظيم وجمال العالم، نستطيع أن نعرف الله كأساس وغاية الكون” (التّعليم المسيحيّ، رقم 32).
فغنى وعِظَم الله هما بمكان أنّ أيّاً من هذه السّبل لا تستطيع بذاتها أن تعطي صورة كاملة لكيان الله الشّخصيّ .جلّ ما تستطيعه على الأكثر، هو وصف ناحية من كيانه : وجوده، عقله، عنايته …


بين البراهين الّتي يقال لها علم الكونيّات، توجد ” السّبل الخمسة “الأكثر شيوعاً، وقد استنبطها القدّيس توما الأكويني . إنّها تحوي، بأغلبيّتها أفكار فلاسفة سابقين.


ولفهمها، من الضّروريّ أن يمتلك المرء بعض المعارف حول ما وراء الطّبيعة[6]. ألسبيلان الأوّلان يرتكزان على فكرة السّلاسل المسبّبة (عبور من القدرة إلى الفعل، عبور من العلّة الفاعلة إلى النّتيجة ) الّتي نلاحظها في الطّبيعة، لا تستطيع أن تمتدّ حتّى اللاّنهاية في الماضي . إذ يجب أن يرتكزا على محرّك أوّل، وعلى سبب أوّل . ألسّبيل الثّالث، إنطلاقاً من ملاحظة إمكانيّة الحدوث، ونهاية المخلوقات الطّبيعيّة، يستنتج أنّ سببها يجب أن يوجد في “كائن” ضروريّ، غير مشروط . الرّابع يعتبر مختلف درجات كمال الأشياء . هذا الكمال يجب أن يتأتّى من نبع عامّ وسامٍ . ألسبيل الخامس، أخيراً، ينطلق من ملاحظة التّنظيم الحاليّ في العالم، وفي معنى الأشياء، ونتائج نوعيّتها، وثبات قوانين الطّبيعة . يستنتج القدّيس توما وجود عقل منظِّم، وهو أيضاً الغاية القصوى لكلّ شيء.


سُبُل التّفكير هذه، وغيرها المشابهة لها، كانت قد عُرضت من قِبل كثيرين من الكتّاب، بأشكال متنوّعة حتّى أيّامنا . إنّها إذا دائمة الحضور يبقى لفهمها ضرورة الانطلاق من معرفة للأمور مرتكزة على الواقع (على النّقيض من أشكال الفكر العقائديّ)، معرفة لا تحصر الواقع في بعدها الحسّيّ الوحيد، المُختبَر (حصريّة مختصّة بعلم الكائن)، فيما الفكر البشريّ قادر بالنّهاية، أن يرقى من المفاعيل المرئيّة إلى الأسباب غير المرئيّة (تأكيد الفكر الماورائيّ).


إنّ معرفة الله هي أيضاً متاحة للحسّ العام، للفكر الفلسفيّ العفويّ لكلّ فرد، عبر الإختبار الوجودي : الإندهاش أمام جمال ونظام الطّبيعة، الشّكران لعطيّة الحياة، أساس وسبب الخير والحبّ . هذا النّوع من المعرفة هو هامّ أيضاً، لإلتقاط إلى أيّ موضوع تعود البراهين الفلسفيّة لوجود الله : فمثلاً القدّيس توما ينهي سُبله الخمسة على التأكيد العامّ : ” وهذا ما يدعوه الكلّ الله “.


شهادة الكتاب المقدّس (ر . حك 13 :1- 9 ؛ روم 1 : 18 – 20 ؛ رسل 17: 22- 27 ) وتعليم الكنيسة العقائديّة يؤكّدان أنّ العقل البشريّ بإمكانه البلوغ إلى معرفة وجود إله خالق إنطلاقاً من الخلائق[7]. (ألتّعليم الدّينيّ، 36 – 38 ). في الوقت عينه يشير الكتاب المقدّس كما التّعليم الكنسيّ إلى أنّ الخطيئة وواقع الأخلاق العاطلة بإمكانهما أن يجعلا هذه المعرفة أكثر صعوبة.


3-الرّوح البشريّ يُظهر الله


الإنسان يشعر بفرادته وبتقدّمه على باقي الخلق . فرغم أنّه يتشارك في كثير من أوجه حياته البيولوجيّة، مع أجناس حيوانيّة أخرى، فهو يعرف نفسه وحيداً في ظاهرته : هو الوحيد من يفكّر في نفسه، والوحيد القادر على التّقدّم الثّقافي والتّقنيّ، والوحيد الّذي يستشعر أخلاقيّة أعماله الخاصّة، ويتجاوز بمعرفته وإرادته، وبخاصّة بحريّته، الكون المادّي[8]. بكلمة، يُبدي الكائن البشريّ حياة روحيّة تسمو فوق المادّة رغم ارتباطه بهذه[9]. فمنذ القِدم، أبرزت ثقافة وتديّن الشّعوب سموّ الكائن البشريّ، مؤكّدين ارتباطه بالله، ومعتبرين الحياة البشريّة كانعكاس لتلك الخاصّة بالله . فبالتّوافق مع هذه القناعة الجماعيّة العقلانيّة يعلّم الوحي اليهودي – المسيحيّ أن ّ الإنسان خلق على صورة ومثال الله ( ر . تك 1: 26- 28) .


الكائن البشريّ هو نفسه على الطّريق نحو الله . فهناك سبل تقود إلى الله إنطلاقاً من التّجربة الوجوديّة : ” بانفتاحه على الحقيقة والجمال، بحسّه بالخير الأخلاقيّ، بحرّيّته وصوت ضميره، بشوقه إلى اللاّمحدود وإلى السّعادة، يسأل الإنسان عن وجود الله . عبر كلّ هذا يستشعر إشارات من نفسه الرّوحيّة”. (التّعليم المسيحيّ، رقم 33) .


إنّ وجود ضمير أخلاقيّ فينا، يوافق على الخير الّذي نصنعه، ويشجب الشّرّ المحقَّق أو المُشتهى، يقودنا إلى الإعتراف “بخير مطلق”، ونداء داخليّ للتّناغم معه، ولإعتباره حكم ضميرنا كمرسَل له .إنطلاقاً من خبرة الضّمير، ودون معرفة الوحي الكتابيّ، طوّر عدّة مفكّرين من العصور القديمة تفكيراً عميقاً حول البعد الأخلاقيّ للعمل البشريّ، وهو تفكير بمقدور كلّ إنسان أن يقوم به، كونه مخلوق على صورة الله.


عدا ضميره الخاصّ، يعرف الإنسان حريّته الشخصيّة، وهي شرط تصرّفه الأخلاقيّ. فبمعرفته بحريّته، يرى الإنسان البشريّ نفسه مسؤولاً عن أعماله الشّخصيّة. ويستشعر أيضاً بوجود ” أحد ” يرى نفسه مسؤولاً تجاهه. هذا “الأحد” يجب أن يكون أكبر من الطّبيعة المادّيّة، وأكبر أيضاً من أمثاله، المدعوّين هم أيضاً إلى المسؤوليّة نفسها . وجود الحرّيّة والمسؤوليّة يقودان إلى وجود إله يكون حَكَم الخير والشرّ، إله خالق، مشرّع و مُجزٍ.


في المحيط الثّقافي الحاليّ، تُنكر غالباً حقيقة الحريّة : فيُسحب هكذا الإنسان حيواناً بين غيره من الحيوانات، ربّما أكثر تطوّراً، لكنّ التصرّف يكون أساساً محكوماً بغرائز لا تقاوَم ؛ أو يُطابَق مقرّ الحياة الرّوحيّة ( الرّوح، الضّمير، النّفس ) بتعاون الأعضاء الدّماغيّة ومسارها العصبيّ والفيزيولوجيّ، ناكرين هكذا وجود أخلاقيّة لدى الإنسان . نستطيع أن نواجه رؤية كهذه ببراهين تبغي تبيان، على صعيد العقل ودراسة الظّاهرة البشريّة، سمّو الشّخص نفسه، واستقلاليّته بالعمل أيضاً ضمن خيارات الطّبيعية المشروطة، وعدم القدرة على اختزال الرّوح بالدّفاع .


الكثيرون اليوم يعتقدون برؤية برهان على عدم وجود الله بحضور الشرّ وعدم العدالة في العالم . لو كان الله موجوداً، كذا يقولون، لما سمح بذلك .في الحقيقة، هذا الإنزعاج وهذا التّساؤل هما أيضاً “سبيلان” نحو الله . فبالفعل، يشعر الإنسان بالشرّ وعدم العدالة كأنّهما حرمان، حالة موجعة لا يجب أن تكون، تطالب بالخير والعدل . إذ لو لم تكن تركيبتنا الأكثر حميمة تنشد الخير، لما وجدنا في الشرّ ضرراً أو حرماناً .


تلازم الكائن البشريّ الأشواق الطّبيعيّة للحقّ والخير والسّعادة : إنّها تجلّيات عطشنا الطّبيعيّ لرؤية الله . لو كانت هذه الأشواق بلا غرض، لكان الكائن البشريّ كائناً متناقضاّ وجوديّاً، كونها تؤلّف النّواة الأعمق للحياة الرّوحيّة، ولكرامة الشّخص . فوجودها في عمق أعماق القلب البشريّ يدلّ على وجود خالق يدعونا إليه، زارعاً فينا الشّوق إليه . فإذاً كانت السّبل المسمّاة كونيّة لا تؤمّن إمكانيّة الوصول إلى الله بصفته الشّخصيّة، فالسّبل الخاصّة بعلم الإنسان، هي إنطلاقاً من الإنسان ومن أشواقه الطّبيعيّة، تجعلنا نستشفّ أنّ الله الّذي نقرّ بتبعيّتنا له يجب أن يكون شخصاً قادراً على الحبّ، كائناً شخصيّاً يجذب إليه مخلوقات شخصيّة .


الكتاب المقدّس يحوي تعاليم واضحة حول وجود قانون أخلاقيّ، مطبوع من قِبل الله في قلب الإنسان ( ر. سي 15 : 11 – 20 ؛ مز 19 ؛ روم 2 : 12- 16 ). إنّ فلسفة الوحي المسيحيّ تتحدّث عن “قانون طبيعيّ” بمتناول إنسان كلّ حقبة وثقافة، رغم أنّها أحياناً تقدر أن لا تكون معترفاً بها، بكلّ نتائجها، بسبب تعتيم العقل المتأتّي من الخطيئة . هذه هي الحال مثلاً في وجود الله . فالتّعليم الكنسيّ أكّد غالباً وجود الضّمير والحرّيّة بصفتهما سبيلين نحو الله[10].

4- نكران الله : أسباب الإلحاديّة
إنّ الحجج الفلسفيّة المستعملة للبرهان عن وجود الله ليست مفترضة أن تولّد الإيمان بالله . إنّها لا تفي إلاّ غرض إعطائه أساساً عقلانيّاً، وذلك للأسباب التّالية :


أ) هي تقود إلى الإعتراف ببعض مظاهر فلسفيّة عن صورة الله (طيبة، عقل، وجود)، لكن دون ذكر مَن هو: الكائن الشّخصيّ، موضوع الإيمان.
ب) الإيمان هو الجواب الحرّ من قِبل الإنسان للّه الّذي يعلن نفسه، وليس استنتاجاً فلسفيّاً ضروريّاً.
ج) الله نفسه هو سبب الإيمان: هو من يعلن نفسه بمجّانيّة، ويحرّك بعاطفته قلب الإنسان ليتعلّق به.
د) يجب الأخذ بالإعتبار الظّلمة والتردّد اللّذان يغرق فيهما العقل البشريّ بسبب الخطيئة. فهذه تعيق الإعتراف بوجود الله، كما تعيق الإجابة بالإيمان بكلامه (ر. التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثولكية، رقم 37) . لهذه الأسباب، وبخاصّة الأخير، يمكن دائماً للإنسان أن ينكر الله[11].


يمكن للإلحاديّة أن تكون نظريّة (محاولة نكران الله إيجابيّاً، بالطّريقة العقليّة) أو عمليّة (نكران الله بخيارات الحياة، بالتصرّف كمن لا وجود له). إنّ إعلان إلحاديّة إيجابيّة (positiviste) على أساس تحليل عقلانيّ ذي طبيعة علميّة، إختباريّة، هو متناقض، لأنّه كما أسلفنا، لا يمكن أن يكون الله موضوع معرفة كهذه، فنكران صريح ومطلق للّه، إنطلاقاً من العقلانيّة الفلسفيّة ممكن من قِبل بعض الرّؤى الأوّليّة للواقع، ذي طابع تقريباً دائماً عقائديّ، كالمادّيّة، قبل غيرها . يمكن كشف عدم رباطة هذه الرّؤى بمساعدة علم الماورائيّات ونظريّة المعرفة الواقعيّة .


هناك سبب شائع للإلحاديّة الإيجابيّة ألا وهو إعتبار الله كعائق للإنسان : لو كان الله موجوداً، لما كنّا أحرار، وما كنّا لنستمتع باستقلاليّة وجوديّة كاملة . هذا البرهان ينكر واقع أنّ تبعيّة الخليقة تجاه الله هي بالضّبط أساس حرّيّته واستقلاليّته[12]. فبالأحرى، العكس هو إذاً الصّحيح : كما يظهر التّاريخ وماضينا القريب، عندما ننكر الله، نخلص إلى نكران الإنسان وكرامته السّامية.


البعض يستخلص إلى عدم وجود الله، معتبرين الدّيانة، وتحديداً المسيحيّة، كعثرة نحو التّقدّم، كونها ثمرة الجهل والخرافة .


باستطاعتنا الرّدّ على هذا الإعتراض إنطلاقاً أيضاً من التّاريخ : فمن الممكن برهان تأثير الوحي المسيحيّ الإيجابيّ على مفهوم الإنسان وحقوقه، كما وعلى أصل وتقدّم العلوم، فمن ناحية الكنيسة الكاثوليكيّة، فقد اعتُبر الجهل دائماً، وبحقّ، كعائق للإيمان الحقيقيّ . عموماً، الّذين ينكرون الله ليؤكّدوا كمال الوضع البشريّ يفعلون ذلك بهدف الدّفاع عن رؤية ملازمة للتّقدّم التّاريخيّ . قد يكون لهذا الأخير وهم تاريخيّ، أو راحة محض مادّية، ليس بمقدورها إشباع توقّعات القلب البشري كاملة . بين أسباب الإلحاديّة، بخاصّة فيما يعني الإلحاديّة العمليّة، هناك مثل المؤمنين العاطِل ” الّذي، إهمالاً من قِبل التّربية الدّينيّة، أو التّفسير غير المناسب للعقيدة، أو أيضاً بسبب نواقص في حياتهم الدّينيّة، الأخلاقيّة والإجتماعيّة، قد حجبوا ولم يكشفوا عن وجه الله والدّيانة”[13].


منذ المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، أشارت دائماً الكنيسة بطريقة إيجابيّة إلى شهادة المسيحيّين كعامل رئيسيّ لتحقيق “الأنجلة الجديدة” اللازمة [14].


5-مذهب الّلأدريّين واللاّمبالاة الدّينيّة


مذهب الّلأدريّين منتشر بخاصّة في الأوساط الثّقافيّة ؛ فيُعتَبر العقل البشري غير قادر على أيّ تأكيد حول الله ووجوده . المدافعون عن هذا المذهب يتبنّون غالباً أسلوب حياة ملتزما ً، شخصيّاً واجتماعيّاً، إنّما دون أيّ مرجع إلى نهاية قصوى، محاولين هكذا عيش إنسانيّة بدون الله . الموقف الّلأدريّ يتطابق غالباً مع موقف الإلحاد العمليّ . أمّا البقيّة، من تدّعي توجيه الأهداف الجزئيّة لحياتها اليوميّة، دون أي شكل من الإلتزام تجاه الغاية القصوى، الّتي تتّجه إليها، طبيعيّاً، أعمالها الخاصّة، فهي قد اختارت هدفاً، ذا طابع مُلازِم، لحياتها الشّخصيّة . الموقف الّلأ دريّ يستحقّ، مهما كان الأمر، أن يُحترم، مع وجوب مساعدة المدافعين عنه بإثبات استقامة عدم نكرانهم للّه، متمسّكين بفسحة إمكانيّة الإقرار بوجوده، وبظهوره في التّاريخ .


الّلا مبالاة الدّينيّة – والمسمّاة أيضاً ” عدم ديانة ” – تمثّل اليوم الظّاهرة الأساسيّة للجحود، وعلى هذا الأساس، هي موضوع اهتمام متزايد من قِبل التّعليم الكنسيّ[15]. فموضوع الله ليس مأخوذاً بجدّيّة، أو هو مجهول تماماً، لأنّه مخنوق، عمليّاً، بحياة موجّهة نحو الخيرات المادّيّة . تتعايش الّلامبالاة الدّينيّة مع نوع من التّعاطف نحو المقدّس، أو تجاه شبه الدّينيّ، معتبران خارج أيّ مفهوم أخلاقيّ، كما لو أنّ الدّينيّ وحده هو سلعة للإستهلاك . للمحافظة طويلاً على موقف حياديّ دينيّاً، يحتاج المرء إلى لهوات مستمرّة، تمنعه من الوقوف للتّبصّر بالمسائل الوجوديّة الأكثر أهميّة، كمعنى الحياة والموت، القيمة الأخلاقيّة لأعماله إلخ . فهو يبعدها من حياته اليوميّة كما من ضميره . لكن، كما في حياة شخص ما هناك دائماً أحداث تستفهم ( حبّ، أبوّة أو أمومة، ميتات مبكرة، آلام وأفراح ) فموقف الّلامبالاة الدّينيّة لا يمكن إثباته على المدى الطّويل . لا يمكن إجتناب مساءلة المرء لنفسه لآجلاً أم عاجلاً عن الله . إنطلاقاً من أحداث كهذه ذي معنى وجوديّ، فمن الضّروريّ مساعدة غير المباليّ على الإنفتاح جدّيّاً على التّفتيش وتأكيد الله.

6-التّعدّد الدّينيّ، وتأكيد إله واحد حقيقيّ ظهر بيسوع المسيح


التّديّن الحقيقيّ هو طريق نحو الإعتراف بالله الأوحد. هذا التّديّن يُعبَّر عنه في التّاريخ وفي ثقافة الشّعوب بطرق مختلفة، حتّى في التّعبير لصور أو أفكار مختلفة للألوهيّة . إنّ ديانات العالم الّتي تبدي تفتيشاً صادقاً عن الله وتحترم الكرامة السّامية للإنسان يجب أن تُحترم. فالكنيسة الكاثوليكيّة ترى فيها وجود شرارة، أو شبه مشاركة، بالحقيقة الإلهيّة[16]. في مقاربته لمختلف ديانات العالم، يدرك العقل البشريّ إمكانيّة تمييز صحيح : معرفة وجود خرافة وجهل، وأشكال من الّلاعقلانيّة، وممارسات لا تتناسب مع كرامة وحرّيّة الشّخص.


الحوار بين الأديان لا يتعارض مع رسالة التّبشير الكنسيّة. مع إحترام حريّة كلّ فرد، هدف الحوار يجب أن يكون إعلان المسيح. الجزء من الحقيقة الكائن في الدّيانات غير المسيحيّة يتعلّق بالحقيقة الوحيدة، ألا وهي المسيح . فهي لها الحقّ بقبول الوحي، والوصول بها إلى الرّشد بإعلان المسيح، “طريق، حقّ وحياة”. على أنّ الله لا يرفض الخلاص للّذين جاهلين إعلان الإنجيل دون خطأ منهم، يعيشون حسب الشّريعة الأخلاقيّة الطّبيعيّة، ويعترفون باللّه الأوحد الحقّ كأساس لها[17].


في الحوار بين الأديان، تستطيع المسيحيّة أن تبرهن أنّ ديانات الأرض، بصفتها تعابير حقيقيّة عن التعلّق بالله الأوحد والحقّ، تصل إلى مِلئها في المسيحيّة . ليس إلاّ في المسيح ما يكشف الله الإنسان لذاته، ويعطي حلّ معضلاته، ويكشف له عن المعنى العميق لطموحاته . إنّه الوسيط الوحيد بين الله والبشر[18].


يستطيع المسيحيّ أن يواجه الحوار بين الأديان بتفاؤل وأمل، لأنّه يعلم أنّ كلّ كائن بشريّ قد خُلق على صورة ومثال الله الأوحد الحقيقيّ، وأنّ كلّ واحد، طالما يستطيع التّفكير في سكون قلبه، بمقدوره سماع شهادة ضميره الّذي، هو أيضاً، يقوده الى الله الأوحد المُعلن بيسوع المسيح . “أجاب يسوع : هو ما تقول، فإنّي ملك . وأنا ما ولدت وأتيت إلى العالم إلاّ لأشهد للحقّ .فكلّ من كان من الحقّ يصغي إلى صوتي” (يو37:18) .


في هذا المعنى، يستطيع المسيحيّ أنّ يتكلّم عن الله بلا خوف من تعصّب، لأنّ الله الّذي يحثّ على الإعتراف به في الطّبيعة وفي ضمير كلّ إنسان، الله الّذي خلق السّماء والأرض، هو نفسه إله تاريخ الخلاص، من أعلن نفسه للشّعب الإسرائيليّ، وصار إنسان بيسوع . هذا هو الخطّ المتّبع من قِبل المسيحيّين الأوّلين : فقد رفضوا عبارة المسيح كأنّه إله إضافيّ في الهيكل الرّومانيّ، إذ كانوا مقتنعين بوجود إله واحد حقيقيّ.


فوضعوا إذاً قوامهم كلّها ليبرهنوا أنّ الله، الّذي اعتبره الفلاسفة على أنّه سبب وعلّة وأساس العالم، هو حقّاً وبالتأكيد إله يسوع المسيح[19].

الكاتب: Giuseppe Tanzella – Nitti

المراجع الأساسيّة :
التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 27 إلى 49.
المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور عقائديّ : Gaudium et spes (الكنيسة في عالم اليوم)، رقم 4 إلى 22
يوحنّا بولس الثّاني، رسالة بابويّة : Fides et ratio، 14 أيلول 1998، رقم 16 إلى 35 .
بندكتس السّادس عشر، رسالة بابويّة : Spe salvi، 30 تشرين الثّاني 2007، رقم 4-12 .