اتصلوا بنا

الرئيسية

 

 
 
 

رموز عيد الغطاس ومعانيه

 

 
 

تمتد فترة الأعياد الميلادية من ميلاد السيد المسيح إلى عماده أي منتصف شهر كانون الثاني، وكانت تسمى هذه الأعياد "الإبيفانيا" أي "ظهور الرب" وتجمع أربعة أعياد: أولاً عيد الميلاد بالذات، أي عيد ظهور الرب في الجسد لدى تجسده من مريم العذراء وميلاده في مغارة بيت لحم، وهذا هو السر العظيم الذي نسميه "سر التجسد" أو "سر التأنس" أي أن "الكلمة صار بشراً وسكن بيننا". العيد الثاني هو "عيد الغطاس" – وهنا خطأ في التسمية إذ أن الكلمة توحي بالتغطيس في الماء أي عماد السيد المسيح، ولكن هذا العيد يذكر ظهور السيد المسيح للأمم الوثنية لدى زيارة المجوس الذين أتوا من المشرق ليسجدوا له. أما العيد الثالث فهو "عيد عماد الرب" وهو يحيي ظهور السيد المسيح للناس في بداية حياته العلنة لدى اعتماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان. أما العيد الرابع فهو "عيد معجزة قانا الجليل" حيث أظهر السيد المسيح قوته الإلهية بتحويل الماء إلى الخمر أثناء العرس فآمن به تلاميذه.

نحتفل "بعيد الغطاس" لذلك سنتوقف عنده قليلاً لنستجلي رموزه ونستفيد من معانيه. فهذا العيد يدور حول نبأ قدوم المجوس من بلاد بعيدة للسجود للطفل يسوع لدى رؤيتهم نجمه في المشرق فتبعوه إلى أن وصلوا إلى أورشليم وسألوا "أين ملك اليهود الذي ولد؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنسجد له". ويقول الإنجيل بأن الملك هيرودس اضطرب واضطربت معه أورشليم كلها عند سماع الخبر. وبعد مقابلتهم لهيرودس الذي أوعز إليهم بأن يبحثوا عن الطفل بحثاً دقيقاً، وأن يخبروه إذا وجدوه ليذهب هو أيضاً ويسجد له، فلما ذهبوا إذا بالنجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً. فدخلوا البيت، فرأوا الطفل مع أمه مريم، فجثوا له ساجدين، ثم فتحوا حقائبهم، وأهدوا إليه ذهباً وبخوراً ومراً. وبعد هذه الزيارة الكريمة أوحي إليهم في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، لأنه كان ينوي قتل الطفل، فانصرفوا في طريق آخر إلى بلادهم.

إن هذه الرواية الجملية مليئة بالرموز والمعاني: فالمجوس أولاً هم ملوك أو كهنة أو علماء فلك، يقول التقليد المسيحي بأنهم أتوا من بلاد فارس أو من العرق أو من الجزيرة العربية أو من شمال أفريقيا، ودلالة زيارتهم هذه الغريبة أن السيد المسيح بميلاده يجمع جميع الشعوب أمام مهده الوضيع في المغارة الحقيرة ويدعو الجميع، وحتى الأمم الوثنية، إلى الإيمان والخلاص، وهذا الانفتاح مهم جداً لكيلا يحصر ميلاده بأمة معينة أو بشعب خاص أو بأرض محددة، كما كان اليهود يعتقدون بأن المسيح سيأتي فقط لآل إسرائيل، وهذا ما نسميه "بشمولية الفداء".

أما النجم الهادي فهو من أحد الرموز التي كانت تدل على ميلاد شخصية عظيمة في التاريخ، لدرجة أو علامة فلكية مميزة كانت تظهر في السماء، ولكن الأهم من ذلك هو هذا الترقب والانتظار الذي كان يعمر قلوب هؤلاء العلماء، كما والانقياد وراء النجم للبحث عن الصبي العجيب. وإن غياب النجم لم يثن المجوس من البحث والتنقيب حتى ولو اضطروا إلى السؤال عنه في أورشليم، وهذا دليل على الإيمان والرغبة في البحث عن الحقيقة للوصول إلى اليقين وقد يكون امتحان لإيمانهم واختبار لجديتهم، لذلك فإن تعبهم لم يذهب سدى لأن أملهم لم يفتر ورجاءهم لم يمت بل أثمر بظهور النجم من جديد، لذلك فرحوا فرحاً عظيماً. ومثل هذه الخبرة تحدث معنا: فما هو النجم الهادي الذي يقود حياتنا ويرشد طريقنا أم أننا نسير وراء الأوهام ونلحق السراب؟ هل نيأس إذا فقدنا النور وبدت الطريق مظلمة موحشة والنفق طويلاً؟ أم نصبر ونثابر ونبحث نعمل ونحافظ على الأمل؟

إن السجود للطفل في مغارة بيت لحم وتقديم الهدايا الثمينة له علامة اعتراف بعظمة هذا الطفل المولود، فمن الطبيعي أن يزور المرء العائلة التي تنجب طفلاً، ومن الطبيعي أن يقدم له الهدايا، ولكن السجود له وتقديم الذهب والبخور والمر فأمر غريب له مغزى رمزي آخر، وقد رأى الآباء في الذهب اعتراف بأن هذا الطفل ملك، وفي البخور بأن هذه الطفل إله، والمر بأنه سيتألم ويموت، وفي هذا دلالة واضحة لهويته الملوكية والإلهية ورسالته الخلاصية عند طريق الألم والموت على الصليب. أما نحن، فماذا نقدم لهذا الطفل؟ هل نقدم له ذهب محبتنا وبخور عبادتنا ومر تضحياتنا وندامتنا عن خطايانا حتى ندخل في ملكوت حبه ونتمتع بسماوات مجده وننعم بثمرة موته وقيامته وفدائه؟

أما الأمر الغريب عن هيرودس الرهيب الذي اضطرب واضطربت معه أورشليم لما بلغه خبر ميلاد السيد المسيح، فهو دليل على الغيرة والحسد والحقد لا بل الخوف من فقدان كرسي الملك بمولد ملك الملوك ورب الأرباب، مما ولد الرغبة في ملاحقة الطفل والقضاء عليه، الأمر الذي أدى إلى قتل أطفال بيت لحم الأبرياء، من ابن سنتين فما دون ذلك، أملاً منه بأن يكون الطفل يسوع بينهم. وكل ذلك لأنه رأى بأن المجوس سخروا منه وشعر بأن الطفل أفلت من قبضته، فاستشاط غضباً ورغبة في الانتقام والتدمير. إن هذه الحادثة المأساوية بالذات قصة أبدية تتكرر مع مدار الزمان وكر العصور منذ قائين وهابيل إلى زمن فرعون فهيرودس فنيرون إلى أيام شارون، والحبل على الجرار، للأسف الشديد، لأن الإنسان لا يتعلم من عبر التاريخ المريرة ويظل يدور في هذه الدوامة الشريرة.