الرئيسية

 

عيد عماد الرب

 
 

لم يكن احد من الرؤساء الدينيين والزمنيين في اليهودية المنقسمة الى اربعة اقسام، والتي كان يحكمها ولاة رومانيون، مؤهلا لتكون عليه كلمة الله الا يوحنا الذي تربى في البرية، جاء ليشهد للنور ولم يكن هو النور، لقد شهد امام الكهنة واللاويين الذين أتوه من اورشليم بانه ليس المسيا المنتظر ولا ايليا ولا النبي، وما هو الا صوت صارخ بالبرية، قوموا طريق الرب كما قال اشعيا النبي، وانه في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، وهو الذي قلت عنه: يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي.

لقد ظهر يوحنا في هذا الجوالقاتم، ليهيء الطريق لاسرائيل كما للرومان، لكي يقبلوا العضوية في جسد المسيح المقدس، ولكي يهيء الطريق للسيد المسيح، ظهرالصوت ليهيء الطريق للكلمة، جاء يوحنا بمعموديته يهيء الطريق لمعمودية السيد المسيح لا لمغفرة الخطايا فحسب، وانما للتمتع بروح البنوة لله وحلول الروح القدس فينا حتى ننعم بصداقة مع السيد المسيح على مستوى الاتحاد الحق وشركة امجاده.

ان عمل يوحنا المعمدان الذي كان يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا لم يتحقق بطريقة عشوائية، ولكنه جاء كجزء من خطة الله الخلاصية كما ورد في سفر اشعيا النبي: صوت صارخ بالبرية، اعدو طريق الرب ، اصنعوا سبله مستقيمة، كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة، والشعاب طرقا سهلة، ويبصر كل بشر خلاص الله.

لقد كان يوحنا الصوت المدوي في البرية، وان دعوته الى التوبة وترك الطرق الملتوية لادراك الخلاص لا تزال قائمة، فاننا لا ندرك الخلاص ما لم نسمع صوت يوحنا في داخلنا، يملأ قلوبنا المنسحقة بالرجاء، ويحطم كل ما فيها من عجرفة وكبريا ومعوجات، لتصبح عندها شعابنا العميقة سهلة وطرقنا المعوجة مستقيمة.

لقد خرجت الجموع باعداد كبيرة لمعمودية يوحنا، وهو الذي كان يحثهم الى الخروج ليعتمدوا على يدية مستخدما طريق التهديد وهو القائل: يا اولاد الافاعي من اراكم ان تهربوا من الغضب الاتي، فاصنعوا ثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدؤا تقولون في انفسكم لنا ابراهيم ابا، لاني اقول لكم ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة اولادا لابراهيم، والان قد وضعت الفأس على اصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.

فالحسب والنسب الجسدي لا يفيدان، وانما بريق الاخلاق والاعمال والفضيلة والصلاح والحب العملي والرحمة وميراث الايمان والاعتراف بالوهية المسيح المخلص.

لقد كان الشعب اليهودي غريبا في تفكيره، فبينما نجده قد رفض السيد المسيح كان الجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، لما رأؤه فيه من تقشف شديد في اكله وشربه وملبسه وتعنيفه الخطأة، لكن يوحنا رفض رفضا مطلقا ان يسلب مجد المسيح لا بل رفض التكريم الزائد وشهد عن المسيح الحقيقي معلنا انه ليس هناك مجال للمقارنة بين السيد المسيح وبينه وبين معمودية المسيح ومعموديته وهو القائل: أنا أعمدكم بالماء، ولكن يأتي من هو اقوى مني، الذي لست لأهلا أن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس والنار.

لقد كان الشعب معجبا بيوحنا ويحبه، ولكنه قام بدور الخادم الامين ليس لانه لم ينسب لنفسه كرامة ومجد سيده، بل كان يمقت ذلك شأنه في ذلك شأن القديس بولس الذي كان محبوبا من جماعات المؤمنين وكان يتحاشى ان يرتفع من فرط الاعلانات ويتألم من المغالاة في حبه اكثر مما يستحق.

لم يقصد يوحنا ان يقارن نفسه بالمسيح وهو يعرف حق المعرفة انه لا وجه للمقارنة بين ابن الله وانسان مثله، وانما اراد ان يحسم الوضع ويبدد الظنون في نفوس الناس، بان أعلن أنه ما هو الا خادم لسيده، وان المجد والكرامة والسجود والعظمة لا تليق الا بالمسيح الذي اسمه يفوق كل اسم.

ولما اعتمد جميع الشعب، نظر يوحنا فرأى يسوع مقبلا اليه فقال: هوذا حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم، وكان هذا هو اللقاء الثاني بين يسوع ويوحنا المعمدان، وكان اللقاء الاول عندما التقى الجنين الذي في احشاء القديسة مريم بالجنين الذي في احشاء القديسة اليصابات. اعتمد يسوع ايضا، واذ كان يصلي انفتحت السماء، وهبط الروح كأنه حمامه، وسمع صوت الاّب: هذا ابني الحبيب الذي عنه رضيت.

لقد شهد يوحنا قائلا: اني قد رأيت الروح نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه، كما شهد ان هذا هو ابن الله الذي يعمد بالروح القدس، وكانت شهادة يوحنا لمسيحانية يسوع قد كسبت اندراوس وشهادة اندراوس كسبت سمعان بطرس ومن بعدهم فيلبس ونثنائيل واثنان من تلاميذ يوحنا وهكذا.

ان السؤال المهم، اذا كانت معمودية يوحنا للتوبة عن الخطيئة فلماذا اعتمد يسوع وهو الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر، علما ان الانبياء العظام كاشعيا وارميا وحزقيال لزمهم ان يعترفوا بخطيئتهم وحاجتهم الى التوبة، لكن يسوع اعتمد ليكمل كل بر، وليعرف الناس انه المسيح الاّتي بعد المعمدان ليؤمنوا به، وليبدا رسميا في خدمته، وليجعل نفسه واحدا معنا في بشريتنا، ويحمل على نفسه خطيئتنا، وليقدم لنا مثالا لنتبعه ونقتضي به، وليعلن التزامه بارساليته في تقديم رسالة الخلاص لكل الناس، وليثبت انه كان حقا ابن الله، وان الله نفسه سانده في ارساليته.

لم يحل الروح القدس على جموع اليهود اثناء تعميدهم بل على يسوع وحده، فمن اراد ان يقبل الروح القدس عليه الايمان بيسوع فان الروح القدس حال فيه، فيسوع يولد والروح القدس هو السابق به، وهو يعتمد والروح يشهد له، وهو يجرب والروح يقوده، ويصنع المعجزات والروح يرافقها، ويصعد الى السماء والروح يحل محله، وهنا يطرح السؤال نفسه هل كان المسيح في حاجة الى موهبة الروح القدس؟ كلا لم يكن شيء من ذلك، فالروح القدس هو روحه الذي لا ينفصل عنه، لانه واحد معه في الجوهر، ولكن من اجل ان تتمتع به الكنيسة وكل عضو فيها، وأنه قد تم ذلك لتعليمنا بان الانسان الذي من ذرية داؤد وهو المتحد بالله الابن عمد وقبل الروح القدس، ليعطيه كمال المسحة المقدسة، وانه من ملئه نحن جميعا أخذنا، وليملك الله على البشر مرة أخرى وبتحقيق ملكوت الله على الارض، بداية لتحقيق ملكوت الله السماوي.

لقد اغتسل المسيح كلمة الله، القدوس من قدوس، لاجلنا بل غسلنا نحن في جسده، لذا فلا بد لنا من الاسراع في غسل خطايانا والاقتداء به، اّخذين بالاعتبار ان المسيح الذي تطهر وهو ليس بحاجة الى التطهير من الخطيئة انما فعل ذلك من اجلنا.

والان وقد اخذنا المسيح مثلنا الاعلى في المعمودية، فلنقرب اطفالنا من نعمة العماد الاقدس بكل جرأة وحرارة وايمان ودون تأخير، ليفتح الله الاّب ابواب السماوات، ويرسل لهم الروح القدس ليحل عليهم، وليقبلهم كابناء له، ولنذكر نحن المعمدون معموديتنا في الكنيسة وفي كل حين ولنعيشها دعوة وانجيلا، لكي ننال جميعا نعمة فوق نعمة، وعلينا ان نتذكر على الدوام اننا بالعماد اصبحنا هياكل للروح القدس وهذا يحتم علينا ان نصونها من النجاسة والخطيئة، وانه بمعموديتنا علينا ان نكرز بالانجيل بين الناس، وان نشهد كما شهد يوحنا: أنا رأيت وشهدت ان هذا هو ابن الله.